إن كورونا أعدل الماكرين، جاء ليذكرنا بقيمة العدل والمساواة والحوار، كي نعيش جميعا بسلام واطمئنان، بغض النظر عن جنسنا أو عرقنا، أو لغتنا، أو ديننا، أو مذهبنا، أو نظرتنا لذواتنا أو الآخرين.
فقد أصبح رعب الكورونا هو هاجس الناس، وبدأ هذا الرعب والهلع ينتقل من بلد إلى آخر، كما تنتقل النار في الأعشاب الجافة، وأصبح الجميع في حالة من الخوف والتوجس، حتى إن بعض شعوب الكرة الأرضية بدءوا في تخزين الأغذية والمياه العذبة خوفًا من اللحظة التي تعلن فيها الدولة أنها في حالة حصار بسبب الكورونا، فلا غذاء يدخل البلاد ولا ماء يمكن توفيره، كل هذا بسبب فيروس صغير.
نحتاج بعد انقشاع هذه الكارثة الوبائية الى أن نسجل التقنية التي تمت بها إدارة الكارثة الوبائية، إذ أن هذه النوعية من الكوارث ستأتي مرات ومرات في المستقبل، فلا يمكن أن نعتقد أنها ستذهب بلا عودة، لذلك أجد أنه من المناسب – على الجهات التي أدارت الكارثة الوبائية – أن توثق هذه التجربة ماذا فعلت أميركا وروسيا والصين والدول الأوروبية من منطلقات مفهوم كل منهم لـ » القرية الكونيّة»، التي تمخّضت عقرباً سامّاً يلسع الدول.
ويحقّق الربح والخسارة للشعوب عبر تحضير الحروب لها وخاصة في وطننا العربي. جبروت العولمة كما فهمناه سقط. لأنّ العولمة بمفاهيم الكبار هي الدوس على منطقة الشرق الأوسط وسلب أموالها. تماماً كما فعل سياسيو لبنان في سلب أموال الدولة اللبنانية والشعب المسكين.
وهذا الأسلوب الذي تمت به إدارة هذه الكارثة، وبالتالي يعاد صياغتها والاهتمام بها، وكتابتها من جديد حسب الأساليب المتبعة في إدارة الكوارث الوبائية.
ان عملية الرصد للسلوك الإنساني المتكيف مع المحددات المجتمعية الجديدة تشير بوضوح ان ما كان يحضر في العقدين الماضيين بات يستعد لملء الفراغ بقوة وفي كافة التفاصيل. الثقة تتعاظم في العالم الافتراضي
وتقل بشكل ملحوظ مع التواصل البشري والالة (مستقبلاً الروبوت) يصبح مصدر للطمأنينة بينما يرتبط الخوف والتوجس بالبشر. اذاً باختصار العقل البشري يتم إعادة صياغة نظامه التشغيلي على أسس جديدة تتوافق مع كل ما هو قادم.
يمكن النظر الى هذه المرحلة على انها مرحلة “هندسة العقل البشري” إعادة صياغته ضمن قواعد جديدة يتم من خلالها تحديد العلاقات البشرية باعتبار ان التواصل البشري المباشر بات هو سبب من أسباب المرض وانتقال العدوى.
جبروت العقل البشري، وطغيان العقل العلمي المنزوع منه الإيمان، يعطيان إنسان اليوم حالة مخيفة من الزهو والكبر والغرور بالنفس، مما يجعله يشعر أنه عابر لإرادة الخالق الواحد الأحد المدبر المطلق لهذا الكون.
وكلما شعر الإنسان أنه ملك المعرفة المطلقة، وأصبح قادراً على فعل كل شيء وأي شيء، وأن إرادته مطلقة لا حدود لها، جاءته رسالة واضحة من السماء تقول له: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)
ثم يتم التدريب عليها كل فترة وأخرى، حتى نكون على استعداد أكبر في المرات القادمة، فلا تفاجئنا الكوارث الوبائية وتزهق الأرواح من غير أن نحرك ساكنا.
فإدارة الكوارث علم وفن وإدارة، فإن نحن نجحنا هذه المرة فإنه بفضل جهود وتفاني العاملين في ميدان العمل، وعلى رأسهم سمو ولي العهد، ولكن في المرات القادمة نريد أن تكون لدينا خطط واستراتيجيات واضحة يعلمها الجميع، ويكون الجميع على أهبة الاستعداد.
ها هي أعظم الشخصيات في عالم اليوم، معزولة داخل غرفها أو منازلها، أحيائها، مدنها، بلا حركة طيران ولا قطارات ولا خروج ولا متنزهات، ولا مطاعم ولا ملاهي، يخزنون المياه والأطعمة، يتكالبون على الكمامات والمعقمات، يعيشون في قلق ورعب وخوف واكتئاب وذعر وتوحد وانعزال!
هذا الإنسان قبل فيروس كورونا كان يبيع ويشتري، يتحرك بحرية ويغزو الأرض من أقصاها إلى أقصاها، يخترع عقاقير ويصنع أسلحة، ويبيع سلعاً استفزازية تبدأ من أطواق مرصعة بالماس للكلاب إلى جهاز موبايل من البلاتين والأحجار الكريمة، يعتقد أنه ملك الأرض وما عليها، ويستعد لبناء مدن في كواكب الفضاء!
السعي إلى التقدم والإصلاح والإبداع والابتكار هو تكريم لمنحة العقل التي اختصنا بها الله عن سائر الكائنات، ولكن حينما تصاب النفس البشرية بالكبر، ويتخيل الإنسان أنه سيد هذا الكون ممسك بكل مفاتيحه، ولديه كافة الإجابات على كل ألغازه”.
التأمل والنظر إلى عالم ما بعد الكورونا ليس كعالم ما قبله، وقيم ومشاعر وأحكام البشر بعد الكورونا سوف يعاد تقييمها وتدارسها بمنظور الإنسان المتواضع البعيد عن طغيان قوة العلم والمادة.
الطغيان هو تجاوز الحد، والطاغي هو المتجاوز الجبار العنيد هو الأحمق المستكبر الظالم. قوة العلم وسطوة التفكير المادي والتطور المذهل في تقنيات العلوم الحديثة وثورة الاتصالات وانفجار المعارف بلا حدود أدارت رؤوس البشر حتى ظنوا أنهم قادرون ومتحكمون بالأرض وما عليها. حينما يُفتن الإنسان بنفسه وقدراته يحق عليه قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) أمام جبروت العولمة، وطغيان الليبرالية المتوحشة
وسيادة القيم المادية، أضحى أمامها الجانب الإنساني مغمورا؛ تتحكم فيه أحيانا العرقية (الدينية والقومية)، من قبيل نصرة ومد يد العون والإنقاذ لكل منتسب لهذه الملة أو لهذا العنصر، والإبقاء على الآخرين في دائرة الهلاك.
كما تم لجْم ومصادرة كل لسان أو بحث علمي أو دراسة تكشف أو بالأحرى تفضح مخاطر استهلاك منتوج اقتصادي معين، كتسمم المواد الغذائية المصبرة والصيدلانية، أو قطع الغيار التي تدخل في تركيب جهاز أو آلة معينة.
وهكذا؛ وتبعا لهذا المنظور أصبح العقل البشري الحالي همجيا في توجهاته الكبرى، فقط يقيم الوزن للجانب المادي الاستهلاكي الصرف، ويصرف نظره عما هو إنساني محض يتوخى الإنقاذ وسيادة قيم الإخاء والتآزر والسلام.
لأول مرة في تاريخ البشرية يجتمع الناس – كلهم – على أمر واحد، وهو الخوف من هذا المخلوق الصغير جدًا، والذي لا يرى إلا بالمجاهر الإلكترونية، ولا يعده علماء الكائنات الدقيقة أنه كائن حي، لأنه ليس كائنا حيا.
هذا المخلوق الصغير جدًا جاء في اللحظة التي تنافست فيها بعض الدول على مرتبة الألوهية والتحكم والسيطرة على موارد الحياة، فأصبحت الحرب الباردة تسخن ما بين الصين وأمريكا من جهة، ومن جهة أخرى ما بين بعض الدول من هنا وهناك بهدف فرض الزعامة على الكرة الأرضية، وكلٌ يطلق التصريحات أنه قد بلغ من المجد الذي
لا يمكن لأي قوة في الأرض أن تزحزحه عن المكان الذي هو فيه، حتى شعرت الدول وشعر البشر أنهم لا يهزمون، وأنه يمكن – حتى – هزيمة الموت نفسه بالعمل والتكنولوجيا والمال. حتى غدا العلم والتكنولوجيا والاقتصاد هي الآلة التي تُعبد في تلك الدول، وبين شعوبها، واستشرت المادية فأصبح حب امتلاك المال هو السمة الأساسية بين شعوب تلك الدول بغض النظر عن مصدر تلك الأموال، فشعر الإنسان أنه استطاع أن يمتلك مصيره.
في تلك اللحظات أتى هذا المخلوق الصغير جدًا، ولا نعرف حتى الآن من أين أتى، ولكنه أتى ليعري البشرية، أتى ليقول للبشرية مهلاً، تريثوا، فما زلت أنت – أيها الإنسان – جزءا واحدا من مخلوقات هذا الكوكب، فأنت لست سيد الكرة الأرضية، فما أنت إلا جزء من كل، يجب أن تحترم موقعك وحجمك ومكانتك، حتى تحترمك بقية المخلوقات.
اما الغرور (بفتح العين) فهو كل ما يوقع الإنسان في الافتتان بنفسه وبجبروت عقله وعلمه وفكره وما وصلت إليه البشرية من اختراعات وابتكارات. نحن أمام نداء في هذا الاستفتاء الرباني: «يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم».
وهذا يوضح عظمة الخالق عز وجل في تعظيم ما قد خلق؛ فالإنسان الذي خلقه الله من «علق”. يناديه العزيز الخبير. يناديه ويسأله بمنطق رباني حكيم: «يا أيها الإنسان. ما غرك بربك الكريم”؟
إنه نداء الإيقاظ الرباني للإنسان المفتون بنفسه، والاستفهام مع النداء لتنبيه البشرية التي كرمها الله وحملها في البر والبحر، وعلم الإنسان البيان، فتوصل بعلوم الطيران وعلوم ونظريات البحار إلى الطيران والسباحة في الفضاء والغوص في أعماق البحار والمحيطات.
لقد ذكر المولى العظيم سبحانه وتعالى في هذه الكلمات الربانية كلمة «الإنسان»، فلم يقول: يا أيها الآسيوي أو الأمريكي أو الصيني أو العربي أو الإسرائيلي…إلخ إنه نداء عام شامل للإنسان في كل زمان ومكان، في كل العصور، ومن كل الجنسيات.
«يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم”. هو التكريم والتحذير. معا. و«الكريم» في هذا السياق لإدخال الاطمئنان على الإنسان، وفتح باب الكرم، دون أن يغتر الإنسان بكرم الله فينسى عظمة ربه الرحمن الرحيم الكريم القوي الجبار.
فعلى العقل البشري، بكل جبروته وسطوته أن يقرأ هذا الخطاب القرآني الرباني بتدبر، لكي يعود الإيمان مرة أخرى إلى العلم والفكر. إلى العقل البشري، في هذا العصر، وفي كل عصر.
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان