لقد اقتضت إرادةُ الله سبحانه أن يمنح اﻹنسان اختيارًا في هذه الحياة تكريمًا له، وبمقتضى هذه المنحة قد يسيء فيظلم اﻷبرياء، ويلحق اﻷذى بهم ولهذا كان أنفع دواء يتحصن به أمام هذا الابتلاء هو: الدفع بالتي هي أحسن مع التحلي بالصبر الجميل. قال الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 20].
ومِن حِكم الابتلاء أنه تربية: فهو يهذِّب النفوس ويعيد التوازن لمن أصيب بالاختيال والفخر واﻹعجاب بالنفس والمال والولد والثياب والبيت والمحلة والبلد.. أليس قد قال الله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22، 23].
ومن حِكم الابتلاء: التدريب على الصبر: قال الله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].
مَن جانَبَ الهدى ، فمصيره إلى الردى ، و حياته ضنكٌ تعُجُّ بالبلاء ، و تصير به و بغيره إلى هلاكٍ و فناء . لا شيء يبعث على التسليم و الطمأنينة عند نزول القضاء مثل التسليم لله في قضائه و قدره ، و البعد عن التسخط و الضجر .
قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ الحديد : 22 ] فلا يكمل إيمان عبد و لا يستقيم حتى يؤمن بالقدر خيره و شرّه ، و يعرف أن من صفته تعالى أن يُقَّدر و يلطف ، و يبتلي و يخفف ، و من ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } [ يوسف : 100 ] إن الله لا يظلم الناس شيئاً ، و لكن الناس أنفسهم يظلمون ، و من عدل الله تعالى في خلقه أن ينصف المظلوم و يكافئ المحروم .
فما من عبد يصاب فيحتسب إلا استحق البشارة بالأجر الجزيل و الخير العميم و لو بعد حين ، إنجازاً لما وعد الله به عباده في كتابه ، و على لسان نبيّه القائل : ( ما يصيب المسلم من هم و لا غم و لا نصب و لا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) رواه الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، و قد تقدم شرحه .
كما تقدم معنا أن الابتلاء عام في نزوله على بني البشر ، و هو من سنن الله الكونية التي لا مفر منها ، و لا قبل لأحد نحوها إلا بالرضا و الصبر و التسليم ، الذي أُمرنا به و نُدبنا إليه ، كما في قول ربنا تعالى : ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ) [ آل عمران : 186 ] .
و إذا كان ( مثل المؤمن تصيبه الوعكة من البلاء كمثل الحديدة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيبها ) ؛ فلن تكون عاقبة الجلد الصبور إلا إلى خير الأمور . يختلف المؤمن في موقفه من المقدور عن سائر البريّات ، فهو يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، و ما أخطأه لم يكن ليصيبة ، و هذا ما يحدوه لتسليم أمره ، و زمام قياده إلى ربّه الرؤوف الرحيم ، الذي وعد المؤمنين و المؤمنات بالتثبيت عند الشدائد و الملمّات .
{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ فِي الآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [ إبراهيم : 27 ] .
والمؤمن باحتسابه الأجر فيما يلحقه من لأواء ، موعود بجزيل الأجر ، و عظم الجزاء، و لذلك يتلقاه بتثبيت الله تعالى له ، راضياً مطمئناً ، و إن لم يكن يتمناه .
و في مقابل المؤمن الثابت كالطود الشامخ أمام نوائب الدهر ، صنف آخر من البشر لا يلوح له البلاء إلا و تنهار قواه ، و يهتز كيانه ، و لا يلبث أن يسقط في ما يعترض سبيله من فتن ، و هذا شأن المنافقين ، و من قالوا آمنّا بألسنتهم و لم يدخل الإيمان في قلوبهم .
أن الابتلاء مرتبط بحياة الإنسان فما دامت هناك حياة فهناك حتماً ابتلاء.
أن الابتلاء عام لكل أبناء البشر وهو الكدح والتعب والشقاء، وخاص للمؤمنين منهم وهو التمحيص والاختيار والامتحان. كل ما زاد إيمان المرء زاد البلاء له والعكس.
الابتلاءات قد تقع فردية مثل ابتلاء أيوب ويوسف وسليمان وقد تقع جماعية مثل ابتلاء قوم طالوت وأصحاب السبت وقوم نوح.
أن أصعب الابتلاءات ما تعلق بالقلب وكان خاصاً به كابتلاء إبراهيم عليه السلام بذبح الولد. أن البلاء قد يقع بالحسنة وقد يقع بالسيئة. الخروج المستمر عن طاعة الله بسبب من أسباب إصابة الإنسان بالبلاء وسقوطه فيه. أن الابتلاء أنواعه متعددة وأغراضه كذلك منوعة.
أن الجزاء من جنس الابتلاء إذا صبر المرء على ذلك فأيوب ابتلي بالولد والمال والصحة فصبر فكان جزاءه إعادة صحته وماله وأهله ومثلهم معهم، وصبر يعقوب على الفراق فعاد يوسف إليه، ولما كان سبب العمى ثوب يوسف كان سبب إعادة النظر ثوبه أيضاً.
إن للبلاء فوائد تعود على المرء في دينه ودنياه وآخرته إذا صبر وحمد واسترجع واحتسب. أن علامة رفع البلاء اشتداد العسر وضيق الحال، وشدة الكرب، مع وجود الصبر والرضا واحتساب الأجر.
إن الابتلاء بالأمراض والأسقام، قد يكون هبة من الله ورحمة، ليكفر بها الخطايا ويرفع بها الدرجات ومن هنا نعلم جيدا، أن المرض ليس مقصودا لذاته، وإنما لما يفضي إليه من الصبر والاحتساب وحسن المثوبة، وحمد المنعم على كل حال.
ومن هذا المنطلق ـ عباد الله ـ، اجتمع الكافر والمسلم والبر والفاجر في مصيبة المرض على حد سواء، وافترقا في الثمرة والعاقبة، ولا يسوي بينهما في ذلك لان الإسلام حين يرغب في الصبر على البلوى، ويبين ما تنطوي عليه الأسقام من آثار شافية، وحكم كافية، فلا يفهم مخطئ أنه يمجد الآلام، ويكرم الأوجاع والأوصاب،
إنما يحمد الإسلام لأهل البلوى وأصحاب الأسقام، رباطة جأشهم وحسن يقينهم الابتلاء موضوع الابتلاء ما يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وآمنتم وَكَانَ الله شكرا عليما الابتلاء موضوع الابتلاء[النساء:147].
إن الأسقام إذا استحكمت وتعقدت حبالها، وترادفت حلقاتها وطال ليلها، فالصبر وحده هو العاصم بأمر الله من الجزع عند الريب، وهو الهداية الواقية من القنوط عند الكرب، فلا يرتاع المؤمن لغيمة تظهر في الأفق، ولو تبعتها أخرى وثالثة،
بيد أن الإنسان إبان طبيعته، يتجاهل الحقائق، فيدهش للصعاب إذا لاقته، فينشأ له من طبعه الجزوع، ما يبغض إليه الصبر.
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان