كانت الحلقة السابقة أول أمس تحت عنوان “تمزق التحالفات ومعارك الأقنعة” واختتمناها بالقول: (أليست هذه حربًا لاأخلاقية أخرى بين الدول الغربية بعضها البعض، أو بين الدول الأعضاء في حلف الأطلنطي الذي تقوده الولايات المتحدة، حتى لو افترضنا أنها حرب بين شركات تجارية، ناهيك عن ممارسة ترامب ضغوطه على الشركات لمنح الأولوية لبلاده ؟؟)
زعامة صينية
تحملت الصين وحدها عبء فيروس كورونا في الجانب الاقتصادي والبشري داخليًا، ولذلك يقول الكثيرون في بكين إن تفكيك العلاقة بالاقتصاد الأمريكي يمثل خلاصا من حروب ترامب التجارية التي لا تنتهي.
ويرى بعض المعلقين أنه في حين أن الصين تستحق الثناء على حملتها الصارمة في عمليات العزل الاجتماعي والمساعدات الإنسانية الأخيرة للاتحاد الأوروبي وغيرها، إلا أنها لا تزال تتعرض لانتقادات شديدة لقيامها في البداية بحجب المعلومات حول الوباء، وعدم مشاركة البيانات، الأمر الذي أوقع ترامب والعالم الغربي في ورطة. هذا الوضع جعل الرئيس الأمريكي يغوص أكثر في مستنقع الوباء على المستوى الداخلي ويبتعد، بشكل أكبر عن ممارسة القيادة على المستوى العالمي. وبالطبع فإن ذلك يلحق الضرر بصورة ترامب في عيون العالم، رغم أن صورته سيئة بالفعل!!
أما الرئيس الصيني شي جين بينج، فقد شرع في احتواء الوباء من خلال حملة مكبرة. حشدت الحكومة الصينية عشرات الآلاف من العاملين في مجال الرعاية الصحية والعسكريين، فيما وصفه شي بأنه “حرب شاملة”. ووصفه نائب الأمين العام لمجلس الدولة دينج شيانجيانج بأنه “معركة من أجل الصين” وخطر على الأمة لم يسبق له مثيل. ومثلت هذه “الحرب” تحديا لسلطة شي في بعض النواحي، لكنها أتاحت له أيضًا فرصة لإعادة تأكيد أوراق اعتماده كخليفة لماو تسي تونح.
وبالفعل تمكن شي من تعزيز سمعته في القيادة الحكيمة والواضحة عندما بدا أنه تغلب على الأزمة، حتى الآن على الأقل. ويبدو أن استراتيجية شي ناجحة، وتعزز من حشد الدعم له في أجزاء كثيرة من الصين، إن لم يكن في مقاطعة هوبي، حيث ظهر المرض لأول مرة. وبينما يتابع مواطنو الصين المشاهد الفوضوية والذعر الذي يجتاح أوروبا والولايات المتحدة من الوباء، يبدو لهم تعامل شي مع الجائحة متميزًا للغاية.
لكن جمهور مشاهدي أداء شي كان عالميا بقدر ما كان محليا. أصبح الوباء اختبارًا مهمًا لفضائل الحكم الشمولي مقابل مزايا تمكين المواطن. وإدراكا لهذه الدبلوماسية عالية المخاطر، أخذت الصين تعيد صياغة القصة للتأكيد على نجاح تدابير الاحتواء الدولي الجماعي. تبادلت بكين خبراتها مع الاتحاد الأوروبي، وتعهدت بتقديم 20 مليون دولار لمنظمة الصحة العالمية في مكافحتها للفيروس، وأرسلت فرقًا طبية وإمدادات لكل من إيران والعراق وإيطاليا وصربيا وحتى الولايات المتحدة، ووعدت بمساعدة الدول الأفريقية على مواجهة الأزمة. وفي الحال، ظهر شي كزعيم عالمي ملتزم بصحة الجميع. ومع أن تداعيات الوباء لم تنته بعد، فإن العلامة التجارية الصينية للحكم الشمولي تكتسب مصداقيتها كل يوم، رغم التحفظات على افتقار الدولة للشفافية والمساءلة.
يشير روبرت بيكهام مدير ومؤسس المركز متعدد التخصصات للعلوم الإنسانية والطب (CHM) بجامعة هونج كونج، إلى أن التفشيات الوبائية في الصين كانت تكشف دوما عن ضعفها في المواجهة مقارنة ببقية دول العالم، بينما يؤكد “كورونا المستجد” أن الصين باتت قوية وقادرة على احتواء الوباء، وتفوقت على الدول الغربية في محاصرته.
ومما يجدر ذكره أنه في أواخر فبراير، شارك بروس أيلوارد، في قيادة بعثة مشتركة لمنظمة الصحة العالمية مع الصين لتفصي الحقائق حول المرض، وفي مؤتمر صحفي في بكين أشاد إيلوارد بما وصفها: “الجهود الأكثر طموحًا والأكثر رشاقة وجرأة لاحتواء المرض في التاريخ “.
كشف الفيروس التاجي الجديد عن مشهد جيوسياسي عالمي مشروخ، حيث أثبت قوة القيادة الصينية، وسلط الضوء أيضًا على جوانب انعدام الكفاءة داخل الديمقراطيات الغربية. وبينما تفرض حكومات الدول الديمقراطية تدابير حجر صحي شاملة، تأمل الصين في أن يفرض أسلوبها الصارم نفسه باعتباره المعيار العالمي الجديد لإدارة الأزمات.