استعمر الفيروس الكرة الأرضية .. والغريب أنه ليس ككل المستعمرين .. لم يقسم الدول أو ينهب خيراتها أو يستغلها لمصالحه الخاصة .. علي العكس وحد العالم كله بأعدائه قبل أصدقائه في حركة تحرير عالمية ضد امبراطورية الكورونا التي فاقت في توسعها الامبراطوريات الغربية الكبري في القرنين الـ 18 والـ 19 وما قبلهما .. وأحتل هذا الضئيل كل نشرات الأخبار ليتصدرها .. مزيحا الأخبار السياسية والتحليلات الإخبارية وتصريحات الزعماء .. السود والصفر والحمر والبيض يجلسون محتضنين أطفالهم ومحدقين في الشاشات التي تبث بعشرات اللغات منتظرين خبراً واحداً .. اكتشاف مصل أو لقاح فعال لهذا الوباء الذي اختلف عما عرفه العالم قبلا من أوبئة حصدت الآلاف ثم طواها النسيان مثل الطاعون والايبولا والكوليرا والملاريا وغيرها .. العلم هو الملاذ وسفينة النجاة..
امبراطورية الموت عصرت العالم عصرا وطارد شبح الفناء الجميع علي اختلاف جنسياتهم وأعمارهم ونظامهم السياسي والاجتماعي .. وحد بين الفصول الأربعة وبين الأنظمة الديموقراطية والديكتاتورية الشمولية .. نسي الكبار خلافاتهم وأثبتت أسلحتهم البيضاء مثل حقوق الإنسان والمعونات العسكرية والتحالفات الاقتصادية أنها كيانات من قش وأن تقدمها العلمي والتكنولوجي له حدود ورفع الرايه البيضاء أمام وحش يتمدد كالأشباح أو كأنما ارتدي طاقية الإخفاء..
لقد أجبر هذا “الخفي” الدول التي تدمن إخفاء الحقائق عن شعوبها في أشياء كثيرة أن تكشف كل ساعة عن أعداد الضحايا .. أسقط هذا الجبار مبدأ “أسرار الدولة العليا” حتي لا تلوكها أفواه الدهماء فيجفلوا أو يدمنوا الشائعات .. وكأنما المعرفة خطر أكبر من الجهل.. لقد أعطت الجرثومة دروساً واقعية كنا نحسبها شعارات فصارت واقعاً معاشاً .. نعم العالم قرية صغيرة .. نعم الصحة تاج علي رؤوس الأصحاء لا يشعر به إلا المرضي .. نعم جرام وقاية خير من طن علاج .. نعم النظافة من الإيمان سواء كانت شخصية أو مجتمعية حيث تكثر القمامة والحشرات في دول كثيرة .. نعم مساحين التجميل والكذب السياسي لا يخفيان الحقيقة .. ورغم ذلك فمازال هناك من يكابر ويناطح الحقائق .. فترامب مُصر علي اتهام الصين بأنها خلقت الفيروس وأرسلته لأمريكا وجمد المساعدات لمنظمة الصحة العالمية واتهمها بالتامر مع الصين ضد واشنطن .. ثم يتراجع ويطلب المساعدة من بكين .. ثم يعود ويهاجمها .. تحصد الكورونا آلاف الضحايا في الولايات الأمريكية ومازال يناور واضعاً أمام عينيه إعادة ترشحه لفترة رئاسية ثانية , محرزاً السبق في أنه أول رئيس أمريكي يخطط لمصلحته الخاصة ويهمل مصلحة شعبه.. لقد أعلن الفيروس حربا عالمية بطول وعرض الكرة الارضية ..تحت بيتك وفي شارعك وبين جيرانك رغم انك لاتري الاسلحة المستخدمة ولاتعرف اسماء الضحايا..
لقد أضاءت “امبراطورية الموت” عقولاً كانت مغلقة علي أمور مسلم بها مثل أن واشنطن تملك لكل داء دواء في السياسة أو الطب .. وأسقطت الفيروسات أوهام التقدم وأحلام العيش في دول الرفاهية والديموقراطية والرخاء .. وفي هذا يقول القرآن الكريم “اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم” صدق الله العظيم .. الدرس الالهي لعقل الإنسان الذي ميز به الله بني آدم عن سائر مخلوقاته , أنه مهما أوتيتم من العلم فهو قليل وضئيل .. وعليكم إثبات أن هذا الإنسان جبار بعقله وابتكار الأسباب والوسائل التي توفر له حياة أفضل .. “إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبي واستكبر وكان من الكافرين” صدق الله العظيم .. السجود في بعض التفاسير ليس خضوعاً وركوعا فقط , بل تسليم لميزة العقل التي خصه الله بها .. الإنسان هو الأبقي بين مخلوقات الله .. صاحب عقل جبار في المقاومة والنهم للمعرفة والاكتشاف .. ولعل ذلك هو الذي جعله يتطور عبر آلاف السنين ويبتكر وسائل تعينه علي الحياة وتسهل له القيام بواجباته .. هذا العلم والعقل هما مفتاح النجاه اللذان منحهما الله لمن يعمرون الأرض .. من ثم يقول الله “خلق الإنسان هلوعا إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً” .. يتصف الإنسان بذلك لأنه مخلوق بفطرة حب ذاته فإذا أصابه خطر ضياع الصحة والمال جزع , وإذا أصابه الخير اطمأن ونسي ما كان فيه من هلع .. الخلاص والملاذ في عقل الإنسان .. هو الذي سيقود حركة التحرر الكوني من الاستعمار الفيروسي .. كان أجدادنا العرب مبدعون في الطب وذلك في مؤلفات ابن سينا وابن النفيس مكتشف الدورة الدموية والكندي وابن رشد وغيرهم..
لعل هذا العقل يشن حرباً كونيه ضد الفيروس اللعين وينتصر عليه .. ولعله لا يعود إلي سابق عهده في اهمال النظافة وتهميش الصحة والتعليم .. ولعله يعرف أن التقرب لله يمكن أن يحدث في أي مكان .. أتمني أن يدرك الأغنياء أن ثرواتهم لن تستمر إلا بالفقراء وعلي الحكومات تعلم أن الاقتصاد أهم من الخطب والشعارات وان الرأي العام مؤثر ولابد من الإنصات للأصوات العاقلة .. العقل سيحمي العالم من مجاعة قد تعقب الكورونا .. علينا أن نهتدي للتكاتف والتكافل بدلاً من المن والمعايرة و”طق الحنك” .. حفظنا الله وإياكم من البلاء والفناء..