للكلمات حكايات، مثل بني البشر. واليوم أريد أن أحكي لكم حكاية ”الخضراوات“. وهي حكاية تتعلق – كما تبادر إلى أذهان بعضكم – بالصحة، لكنها ليست صحة الجسم، بل صحة اللغة.
ولكن ما الذي يجمع بين ”الخضراوات“، وموقع ”جوجل“ للبحث، و”النبر“ في علم الأصوات؟
تبدأ الحكاية بما لاحظته خلال قراءاتي في بعض المواقع الإخبارية العربية، مثل (بي بي سي عربي)، و(الجزيرة)، و(روسيا اليوم)، و(سكاي نيوز عربية)، و(سي إن إن) العربية. فوسط هذه العجمة التي طغت حتى على أسماء وسائل الإعلام الناطقة بالعربية، أخذت مسحة العجمة تطال كتابة بعض كلماتنا العربية القحة، ومن بين تلك كلمة ”خَضراوات“.
إذ ينحو محررون في تلك المواقع إلى كتابة الكلمة مسقطين حرف ”الألف“ بعد الراء، هكذا ”خضروات“. وربما يبرر ذلك توهم بعضهم أن أصلها ”خُضرة“، فينطق الجمع ”خُضْروات“!
وهذه الصيغة الغريبة آخذة في الانتشار على أيدي الكتاب، بل إن شيوعها زاد على الصيغة الصحيحة ”خَضْرَاوات“. ودليل ذلك البحث في جوجل، الذي ينشر – من بين ما ينشر ويشيع – الصيغ الخاطئة، فما هو إلا باحث أحمق يعدد ما يجده ويعرضه عليك. ولو طلبت منه أن يقارن لك بين ”خضروات“ و ”خضراوات“ من حيث تكرار كل منهما، لوجدت أن الأولى أكثر استخداما من الثانية. والطامة اليوم هي أن بعض المحررين والكتاب، يأخذ برأي ”الشيخ جوجل“، دون تمحيص، وكأن القول ما قاله جوجل، بل قد يجادل غيره محتجا به. ولو بحثت فيه كذلك عن ”صحروات“ و”صحراوات“، لعرفت منه أن الأولى أكثر ورودا من الثاني.
وأصل كلمتنا ”خَضراوات“ – وعن الأصل ينبغي دوما أن نفتش – هو ”خضراء“، إذ إن ”خضراوات“ جمع لـ”خضراء“ جاء على صيغة المؤنث السالم. وميزة الجمع السالم – في مذكره أو مؤنثه – أنه لا يصيب صيغة المفرد بأي ضرر أو تكسير لحروفها، كما يحدث في جمع التكسير. فما كان ينبغي أن يحدث هو أن نضيف لاحقة جمع المؤنث السالم ”ات“ إلى آخر ”خضراء“ لتصبح افتراضا ”خضراءات“.
غير أن ”خضراء“ كلمة مؤنثة، وعلامة التأنيث فيها هي الألف الممدودة ”اء“ في آخرها. وفي هذه الحال يجب قلب الهمزة ”واواً“ في حالة جمع المؤنث السالم، فنقول ”خَضْراوات“.
وهذا أيضا ما فعلناه في كلمات أخرى شبيهة، مثل ”صحراء – صحراوات“، و”سماء – سماوات“، و”سمراء – سمراوات“.
أما إن كانت صيغة الكلمة المنتهية بألف ممدودة تدل على المذكر، مثل ”لقاء“، و”عطاء“، و”نداء“، فلا يحدث هذا القلب أو التحول عند جمعها جمع تأنيث سالما، فنقول ”لقاءات“، و”عطاءات“، و”نداءات“.
ليس هناك إذن سبب لحذف حرف الألف في ”خضراء“ عند جمعها، كما رأينا.
ولكن التحليل الصوتي للكلمة، ومعرفة موقع النبر فيها، قد يلقي الضوء على اتجاه بعض محرري المواقع الإخبارية والكتاب إلى إسقاط هذه الألف في صيغة الجمع.
وما نعنيه بالنبر، هو البروز الصوتي – من حيث شدة النطق ودرجة ارتفاع الصوت وطول الحركة – الذي يحظى به أحد مقاطع الكلمة خلال نطقها. فكلمة ”خضراء“ مثلا تتكون من مقطعين هما ”خـَضْ + راء“. ولا شك في أن النبر يقع فيها – بحسب قواعد النبر في العربية المعاصرة – على المقطع الثاني. ويرجع السبب في ذلك إلى احتواء هذا المقطع على حركة طويلة ”ا“.
أما صيغة الجمع ”خضراوات“، التي تتكون من ثلاثة مقاطع، هي ”خـَضْ + را + وات“ فيقع النبر فيها على المقطع الأخير ”وات“. ويرجع السبب في ذلك مرة أخرى إلى قواعد النبر في العربية المعاصرة. وتنص هذه القواعد على أن النبر يوضع على المقطع المحتوي على حركة طويلة، كما قلنا في ”خض + راء“. لكننا هنا نواجه بمقطعين يحوي كل واحد منهما حركة طويلة هي ”ا“. وهنا تنص قواعد النبر على وضع النبر على المقطع الأخير منهما، وهو ”وات“، ليصبح أكثر مقاطع الكلمة بروزا من الناحية الصوتية.
وعندما فقد المقطع الثاني ”را“ النبر، فقد معه أيضا بروزه الصوتي، وفقد جزءا من طول الحركة بعد صوت الراء، لأن هذا البروز الصوتي بملامحه جميعا تحول إلى المقطع الأخير ”وات“.
وبعد أن أصبح المقطع الثاني ”را“ أقل بروزا صوتيا، أضحى أيضا في الأذن العربية أقصر طولا، وقد يسوغ ذلك مذهب من يسقطون الألف بعد الراء، لأنهم لم يعودوا يسمعونها ألفا طويلة، بل شيئا قريبا من الحركة القصيرة، أي الفتحة.
وهذا التبرير الصوتي لا يعني أبدا إسقاط الألف في كتابة الكلمة، لأن الكتابة في العربية تشير في أغلب الأحيان إلى وظائف الأصوات، وليس إلى صورها الصوتية المنطوقة. وهذا موضوع آخر قد نعالجه في مقالة أخرى.