يظل الاتجاه الحقيقي للتاريخ غير معروف تماماً، سوى للمنجمين والدجالين، ومثبطي الهمم، وسوس الأمم وتجار وسماسرة أو طلائع الاستعمار ودعائم الاستبداد. فنحن نعيش في عالم معقد وغير يقيني وهناك دائماً في التاريخ شيء يمكنك التعلم منه. والأمور ليست بالسوء الذي تبدو عليه دائماً، إن نظرنا إليها متسلحين بإيماننا ودورنا وإمكاناتنا.
فلا يمكن لقارئ حقيقي للتاريخ، ومتابع واع لنفوس الأجيال الجديدة من العرب، أن يتكهن أية نتيجة يمكن أن ينتهي إليها وضع الضياع الحالي، فلحظتنا الراهنة في ضوء أحداث الماضي واستشراف المستقبل مفتوحة على كل الاحتمالات، فيمكن للبعض أن يقول أن منطقتنا تدخل الآن في شتاء عاصف طويل، نتحالف فيه مع عدونا الصهيوني، وعلينا أن نعزي أنفسنا في عروبتنا وإسلامنا ومستقبلنا.
لكن على الضفة الأخرى، حيث يسكن الأمل في سجلات التاريخ، صوت عاقل يقول لنا: إن السنوات القادمة، ولاشك، تحمل من تباشير الخير لأمتنا الكثير، فمد الحرية، الذي بدأ يعلو منذ سنوات ست مضت؛ ولم يبلغ مداه بعد ليذهب بالزبد الذي ران على سطح المشهد السياسي، مستمر لم يزده الاستبداد إلا إصراراً على تجاوز الفشل والتخبط الذي رافقه، وسيحمل في الأجل القريب تباشير ربيع يكشف قساوة هذا الشتاء الكالح.
وحسب كل عربي مؤمن بعروبته وإسلامه وعراقة تاريخه وحضارته، أن نذكره ببعض العلامات الأبرز على ذلك في زماننا: فتحت الضغط الهائل للأنظمة القمعية ولد الربيع العربي. وفي كل مرحلة كانت ريح التطبيع الهوج تهب على مجتمعاتنا العربية، كانت مصدات الأمة وانتفاضات المرابطين في فلسطين ومظاهرات الغضب العربي والإسلامي تعيدها إلى حيث أتت خاسرة.
ومسيرات العودة وصيحات الغضب على القرار الأمريكي باعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني، ورفض السلطة الفلسطينية صفقة القرن والرفض العربي الشعبي لهذا الكيان ، كلها تؤكد أننا قادرون على مقاومة التطبيع والمطبعين. وكل ما يبذله الكيان الصهيوني من محاولات لتغيير الوعي العربي لم تنتج سوى خضوع الحكومات وبعض الأفراد له، لكن جسم الأمة الرئيسي مازال رافضاً لهذا الكيان السرطاني، ولا يحتاج سوى استراتيجية واقعية تفعل طاقات الأمة لمقاومته والانتصار عليه.
نحو استراتيجية شعبية عربية لمقاومة التطبيع
فمن خلال تفعيل الامكانات والطاقات العربية والإسلامية والإنسانية، عبر تسلحنا بخطة استراتيجية للكفاح الشعبي العربي الإسلامي، المنظم طويل النفس والشامل في جميع ميادين النزال مع الصهيونية ومن يطبعون معها، تقوم على دراسة الوضع العربي والإسلامي والعالمي، والوعي بتضاريس الاستراتيجية التطبيعية للكيان الصهيوني ورصد موضوعي لأهدافها، ومواقفه المحتملة تجاهها.
وعبر تنويعة من الآليات، يقوم بها كيان جماعي اختصاصي عربي إسلامي شعبي غير حزبي، يمكننا تحويل ميادين التطبيع الحالية إلى ميادين مقاومة ورفض له، وبناء وعي جديد للأمة يمكننا من تحقيق النصر في معركتنا ضده، تكون بداية طريق نحو تحرير فلسطين.
أولاً: جوهر الاستراتيجية
1-أن نؤمن بعقولنا قبل قلوبنا أن حقوقنا في فلسطين غير قابلة للمساومة، وأننا قادرون على استرجاعها، ومطالبون ديناً وعروبة أن نعمل من أجل ذلك. وأن الخيار الذي تقدمه لنا الولايات المتحدة في ما يسمى صفقة القرن، ليس قدراً محتوماً علينا الرضوخ له.
2-وأن الحق والعدل، هما جوهر استراتيجية مقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني. فمقاومة التطبيع، واجب ديني وقومي وإنساني حتى تعود الأرض لأصحابها ويتحقق العدل لأبنائها، وتظل الثروات العربية ملكاً لشعوب العرب لا للكيان الغاصب أو داعميه الأمريكان ومن يساندونهم.
3-وأن تحرير فلسطين، يبدأ من تحرير كل العواصم العربية من التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومن التبعية لراعيه الأمريكي.
ثانياً: أسس الاستراتيجية
1-مسألة التطبيع داخلة في خيارات الأمة، وليست داخلة في ضرورات الأنظمة. ونحن نسلم للأنظمة أن تفاوض، ولكن لها أن تفاوض في حدود الضرورة وليس خارج حدود الضرورة…ومن حقنا بل من واجبنا أن نجعل تلك الاتفاقات من دون مضمون
2-فضح صورة وأسس التسوية السياسيّة الخاطئة للحكومات العربية التي تقوم على التطبيع مع الكيان الصهيوني، وبيان الصورة العادلة التي من شأنها أن تقودنا إلى تحقيق حالة العدل، الذي يعني دولة فلسطينية والقدس عاصمة لها وعودة اللاجئين، وتفكيك العقيدة الصهيونية.
3-المقومات والإمكانات التي يمتلكها الصوت الشعبي العربي والإسلامي الرافض للتطبيع، هي القادرة على التصدي لمحاولات التطبيع بكافة أشكاله المباشرة وغير المباشرة، من خلال التركيز على العمل الشعبي وتحويل الشعب العربي كله إلى مصدات للتطبيع.
4- رفض احتكار أي فصيل أو نظام سياسي فلسطيني أو عربي أو إسلامي للمقاومة أو احتكار التحدث باسمها. وبذلِ كل الجهود لرأب الصدع في البيت الفلسطيني، وإنهاء الانقسام لحماية القدس والقضية الفلسطينية في ظل مخاطر التهويد والتطبيع التي تهددها.
ثالثاً: آليات الاستراتيجية
ا-آليات سياسية
1-الحصول على المساعدة الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية من الدول العربية والإسلامية الرافضة للتطبيع، من خلال إنشاء الكيان المطلوب وتدعيم حركة المقاومة بداخلها.
2-إنشاء وتفعيل لجان شعبيه لمناهضه التطبيع والتنسيق مع مؤسسات المجتمع المدني العربية والإسلامية الرافضة للتطبيع داخل كل بلداننا العربية والإسلامية لتفعيل المقاطعة واستمرارها.
3- ترميم الروابط والعلاقات بين الفلسطينيين والشعوب العربية، واستغلال كافة الأدوات الممكنة لجعل التواصل مستمراً بين الفلسطينيين وباقي الشعوب العربية من خلال كافة المناسبات السياسية.
ب-آليات اقتصادية
1-تفعيل المقاطعة الشعبية للشركات والمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني والحركات السياسية والشخصيات التي تدعم الكيان الصهيوني.
2- مقاطعة كافة المنتجات الصهيونية، والشركات التي تعاونه والتي تبيع منتجاتها في الدول العربية، والبحث عن بدائل في دول ترفض التطبيع، وتشجيع الصناعة العربية لخلق بدائل لها.
3-استغلال قوة الدين والقومية العربية في تحويل الصراع مع الكيان الصهيوني الى المستوى الاجتماعي والثقافي، وإخراج الشعوب العربية من طور القوة الكامنة الرافضة للتطبيع إلى طور الإمكان والتحقيق العملي، من خلال البذل والإنفاق في وقف عربي كبير لمواجهة التطبيع، يسهم فيه كل عربي رافض للتطبيع، وتمنيته بشكل دائم ومبتكر حتى لا تتوقف لنقص التمويل،.
ج-آليات رياضية
1-استغلال كافة المناسبات الرياضية للتذكير بالقضية والمقاطعة والتبرع لفلسطين بكل السبل الممكنة.
2-دعوة الفرق الرياضية الفلسطينية، ودعمها في كل ميادين تنافسها وجعلها فرصة للتعريف بصمود الشعب الفلسطيني وحقه في الحياة ومقدار ما يعانيه من ظلم تحت الاحتلال الصهيوني.
د-آليات إعلامية وفنية
1-إنشاء مواقع الكترونية لمناهضة التطبيع والتعريف بمخاطره. وابتكار حملات في مواقع التواصل الاجتماعي العربية وبلغات مختلفة تهدف إلى إضفاء شرعية دينية وقومية وحياتية وجودية على الاهتمام بالقضية الفلسطينية ومقاطعة الكيان الصهيوني. ولفضح حقيقة الكيان الصهيوني، وضرورة مقاطعته، ومقاطعة المطبعين معه.
2-تصوير الصراع العربي الصهيوني، ضمن العناوين الرئيسية على الشاشات الرافضة للتطبيع عربياً وإسلامياً ودولياً، عبر توظيف المحاورين المحترفين لبيان أهداف التطبيع الخبيثة في تصفية القضية الفلسطينية ونهب ثروات العرب.
ه-آليات فكرية بحثية
بناء مرصد معرفي عربي، وتخصيص فرق بحثية عربية تدرس:
1-تاريخ التطبيع واستراتيجية الكيان الصهيوني وداعميه وتاريخ حملات المقاطعة في الوطن العربي وحملات المقاطعة دوليًا من أجل الاستفادة من خبراتها والبناء عليها.
2-الخطوط العريضة للاستراتيجية الإسرائيلية المضادة لحركة المقاطعة، وكيف استفادت من المناخ الدولي والقصور الفلسطيني والتفكك والضعف العربي في اختراق الحكومات وبعض الأفراد والمؤسسات العربية والتطبيع معها، من أجل تطوير استراتيجية مضادة لها.
3- كيفية تحقيق قدر من الانسجام بين الموقفين الشعبي والرسمي من التطبيع، يوقف الهرولة العربية نحو إنشاء علاقات دبلوماسية واقتصادية مع الدولة اليهودية، وتغيير معادلة القوة على جانبي الحكومات والمعارضة، لأن حقبة التسوية ستمتد ولا بد من التعامل معها بطرق مبتكرة.
4-إعداد مادة دراسية باسم القدس وفلسطين، تتوخى تربية الأجيال الجديدة على الانتماء لفلسطين والقدس لجميع المراحل السنية، وتحويلها إلى دراما فنية وخصوصاً للأطفال والناشئة، وتطوير شخصيات روائية وكرتونية تجذب الناشئة العربية، تعبر عن الواقع الفلسطيني والعربي الرافض للتطبيع.
5-مناقشة كيفية التواصل مع أهل فلسطين وجهاً لوجه، حتى يتعرف العرب على معاناة إخوانهم ويتشجع الفلسطينيون لوجود إخوانهم معهم في قلب معركتهم مع الكيان الصهيوني، وهنا يجب فتح الباب لمناقشة واسعة لكيفية ذهاب العرب إلى فلسطين المحتلة دون الوقوع في التطبيع السياسي الاقتصادي مع العدو الصهيوني.
6-كيفية بناء مناهج لتغيير الوعي العالمي بالقضية الفلسطينية، واقتراح خطة التحرك ضد العدو الصهيوني لمقاطعته عالمياً في ظل بيئة دولية : جانب منها معادي لحقوق الفلسطينيين، جانب آخر يتبنى الرؤية الصهيونية للصراع لنجاح الكيان في فرض تلك الرؤية أو توافقها مع معتقدات هذا الجانب مثل المسيحيين الصهاينة.
و-آليات دينية وقومية
1-استغلال كافة المناسبات الدينية والقومية، للتذكير بخطورة التطبيع على وجود أمتنا العربية والإسلامية.
2-الاستفادة من مواقف المؤسسات الدينية الرافضة للتطبيع لدعم استراتيجية مقاطعة التطبيع، من خلال الفتاوى والبيانات والتوعية عبر منابر الدعوة المختلفة، والدعوة للتبرع بالمال ووقف الأوقاف. واستعادة دور الأزهر الشريف والكيانات الإسلامية الفاعلة الشبيهة لتقوية الحركة.
ي-آليات قانونية دولية
1-حشد المجتمع الدولي المدني الرافض لسياسات الكيان الصهيوني العدوانية ضد الشعب لعربي الفلسطيني، من خلال حركة المقاطعة الدولية. وتوحيد كل الجهود العربية والفلسطينية والإسلامية الرافضة للتطبيع في كل دول العالم. مثل الحملة الأميركية من أجل الحقوق الفلسطينيّة، والصوت اليهودي من أجل السلام، وحركات مقاومة التطبيع في الدول الإسلامية مثل ماليزيا وغيرها.
أهم العوامل المؤدية لنجاح استراتيجية قاطعة التطبيع
1- لن تنجح دون قيادة المثقفين والدعاة العرب، وقيامهم ببذل النفس والنفيس في سبيل إنجاحها بالدعوة العملية والإنفاق مما في أيديهم، حتى يقدموا القدوة الحقيقية للشعوب حتى تضحي بكل ما تملك لتحرير فلسطين.
2- استحداث وقفية اقتصادية باسم فلسطين، تكون مهمتها الأولى والدائمة تفعيل استراتيجية مقاومة التطبيع.
3-التركيز على عامة الشعب العربي: المرأة والفلاح والعامل والطالب، وتخصيصهم بخطاب شعبي بسيط مركز حول قضية فلسطين وخطورة التطبيع مع الكيان الصهيوني، لأنهم عماد نجاح أي استراتيجية عربية لمقاومة التطبيع.
التطبيع، يكون مع الكيانات الطبيعية، أما الكيانات المصطنعة العدوانية فلا سبيل للتطبيع معها؛ إلا من خلال تفكيك عدوانيتها وكشف زيف اصطناعها ووظيفيتها، وهوما يعني في الأخير زوالها واندثارها. وقد أثبت التاريخ والتحليل العلمي المعرفي أن مواجهة المشروع الصهيوني للتطبيع ممكنة، على الرغم من التطبيع الحكومي. وأن ما ينقص أمتنا العربية، هو استراتيجية واقعية للتعامل مع التطبيع، تبدأ من الإيمان بقدرتنا على مقاومته، ولن تنتهي إلا بتحرير فلسطين من هذا الكيان الغاصب.
لكن هذه الاستراتيجية تواجه العديد من التحديات الواجب التعامل معها حتى يمكن أن تتحقق، ومن أهم هذه التحديات: كيف يمكن تنشيط حملات مقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني في ظل موجة تطبيع الأنظمة التي تتعامل بقسوة بالغة مع المعارضين للتطبيع؟
وكيف يمكن فهم والاستفادة من الأدوات والآليات والأدوار التي استخدمها الصهاينة في دوائر التأثير وتكوين الرأي العام وصنع القرار الدولي والعربي والإسلامي للترويج للتطبيع وتحقيقه واقعاً؟
وما هي الأدوات التي يمكن إبداعها لتقدم حلولاً وأدوات للشعوب العربية، اليوم، للجهاد بكافة أشكاله لمقاومة التطبيع، ولاستدامة وجود القضية في قلوب وعقول ناشئة الأمة وأجيالها الجديدة؟ وكيف يمكن تكوين حلف شعبي عربي مضاد للحلف الحكومي العربي المتساوق مع السياسات الإسرائيلية، يعمل على كشف محاولات قلب القضية والترويج لسلام عربي إسرائيلي على حساب فلسطين، وكشف زيوف التطبيع وفوائده التي تروج الآن؟
—
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان