التغيرات السابقة في معادلة الصراع، راكمت جملة مصالح المشتركة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني الوظيفي التابع لها وأنظمة الحكم العربية، كسرت كل ثوابت الصراع، وفتحت كل الأبواب، بل هدمت كل السقوف أمام التطبيع، لاستثمار الوهن الشامل الذي تعانيه الأنظمة العربية، وهو الأمر الذي استدعى استحداث أهداف جديدة تتمثل في:
1-الدفع بالقضية الفلسطينية إلى ذيل قائمة الاهتمامات العربية والإسلامية، وعزلها عن مسارها العربي الإسلامي، وجعل الأولوية للتطبيع بينها وبين الكيان الصهيوني.
2- تجاوز مبادرة السلام العربية، وجعل التفاوض على مستقبل ما تبقى من فلسطين مع الدول العربية، وإجبار الفلسطينيين على التنازل عن حق العودة والقدس وتعويض اللاجئين، والاعتراف بيهودية فلسطين، والتنازل عن القدس، والقبول بدولة مقطعة الأوصال في غزة والضفة. واعتبار التطبيع مع العالم العربي وتطور العلاقة معه هو ما قد يفضي إلى تحسين العلاقة مع الفلسطينيين، وليس العكس.
2- إحياء نظريات “السلام الاقتصادي” والفوائد التي ستجنيها الاقتصادات العربية من التبادل الاقتصادي والتكنولوجي مع الكيان الصهيوني.
3-التعاون مع السلطة الفلسطينية، كشريك مسئول عن الترويج لما سبق وفرضه على الشعب الفلسطيني، من خلال الاستفادة من خلافها مع حركة حماس وباقي الفصائل الفلسطينية. وقيام مصر والأردن ودول الخليج، بتقديم ضمانات للسلطة لبقائها مقابل دورها في تنفيذ خطة تصفية القضية. والتوافق مع دول العالم العربي في موضوع الجولان تجاوباً مع رغبة الكيان بالاحتفاظ بالمرتفعات المحتلة بحجة مواجهة إيران.
4- التفاهم على وحدة المصالح بين الأنظمة العربية والكيان الصهيوني، لمواجهة الأخطار الحقيقية أو المتوهمة ضد الدول العربية: الإرهاب الإسلامي، إيران.
5-استغلال حالة الهرولة الحكومية العربية تجاه الكيان الصهيوني، في تعزيز وتفعيل التناقضات السياسية والثقافية العربية، الأمر الذي يجعل من هذه التناقضات حاكماً في العلاقات العربية العربية، فيتخذ بعضها من تل أبيب حليفاً وصديقاً ضد الدول الأخرى، وتقديم خلافاتها معاً على خلافاتها مع دولة الاحتلال.
تطور مراحل استراتيجية التطبيع الصهيوني مع العرب
مرت الرؤية الاستراتيجية الصهيونية لعملية التطبيع، بعدة مراحل تاريخية، كانت كل منها تشكل انعكاساً لطبيعة الظروف التاريخية السياسية وموازين القوى القائمة، لكن يجمع بينها جميعاً التركيز على قضية شرعية وأمن الكيان وتفتيت العرب. ويمكن تقسيمها إلى ستة مراحل كما يلي:
المرحلة الأولى: وهم التعاون والاستفادة المتبادلة
عندما كان العرب يواجهون سياسات التتريك التي هضمت حقوقهم في الدولة العثمانية -في بدايات القرن الماضي- وتشجيعها-في ذات الوقت- للحركة الصهيونية لاستيطان فلسطين، ظهرت دعوة للتفاهم العربي-الصهيوني، تزعمها حزب اللامركزية العربية، للاستجابة للدعوة الصهيونية للتفاهم مع العرب من أجل التوصل إلى تسوية بين الطرفين، وللاستعانة بالصهيونية للوقف في وجه سياسة التتريك الاتحادية باعتبارها قوة إقليمية فاعلة يمكن التعاون معها، والاستفادة من أموال المهاجرين اليهود وقدراهم وذكائهم في مقابل أن ينالوا اعترافاً صحيحاً بحقيقة مراكزهم في فلسطين. فالعرب واليهود جنس واحد ولكل منهما مزايا متممة للآخر، فعند اليهود علم ومال ونفوذ، وعند العرب بلاد واسعة وقوى هائلة وكنوز أدبية ومادية لا تنضب، فالتوفيق بينهم يكون لخيرهما خير الشرق كله
لكن الصهاينة لم تكن لديهم النية الصادقة، بل كانت دعوتهم تكتيكية تهدف لتحقيق التباعد والعداء بين العرب والاتحاديين واكتساب حقاً شرعياً في فلسطين وفهم نفسيات وعقليات وتفكير القادة العرب مع بقائهم على مبادئهم الصهيونية. وقد اكتشف القادة العرب حقيقة الخديعة الصهيونية بظهور وعد بلفور والاعتداءات الصهيونية الوحشية عليهم في فلسطين
المرحلة الثانية: العلاقات السرية مع الحكام والتيارات الفكرية الأممية
تحولت تلك الاستراتيجية، بمجرد قيام الحرب العالمية الأولى والحصول على وعد بلفور، إلى محادثات سرية مع الحكام العرب، وأولهم الشريف حسين وأبنائه للحصول على اعتراف رسمي بكيانهم الجديد كما تخلل الفترة من وعد بلفور حتى نكبة فلسطين وإعلان الدولة اليهودية عام 1948م، محاولات لبناء سلام زائف مع بعض القوى السياسية والثقافية العربية بحجة الوقوف أمام الإمبريالية الغربية، وأن قضية فلسطين تحل بالتحالف بين الطبقات والقوى العاملة العربية والصهيونية، التي اعتنقت الأفكار الأممية
المرحلة الثالثة: بناء العلاقات القانونية والثقافية السرية
مع إعلان قيام الكيان الصهيوني، عملت استراتيجية التطبيع على عدة اتجاهات: الأول تثبيت واقع الدولة الجديدة قانونياً عبر عقد هدنة مع مصر والأردن وبناء علاقات سرية مع الأردن باتفاقية عدم اعتداء في مارس سنة 1950، والذي تم بعدها بشهر في نيسان ضم مملكة شرق الأردن للضفة الغربية
والثاني: تطوير لاستراتيجية الحوار مع اليساريين والتقدميين العرب مع نظرائهم الإسرائيليين والترويج لحل اشتراكي للأزمة بهدف إحداث اختراق داخل النخب السياسية العربية. والثالث: كان المسار الاقتصادي الذي تركز على بيان أضرار المقاطعة للاقتصادين العربي والصهيوني والمزايا التي يحققها التطبيع بينهما.
وكانت مصر في المقدمة، كانت المرشح الأول لعملية التطبيع وهدف استراتيجيتها الأساسي، لإيمان الصهاينة” إن مفتاح السلم أو خطر العدوان يوجدان في مكان ما على ضفاف النيل. فمصر هي مقدمة الصف، كما أنها أهم الدول العربية، فهي تعطي اللحن، وبدونها ، ليس هناك من موسيقى”
المرحلة الرابعة: التطبيع الرسمي
ومع دخول عصر السلام الأمريكي، في سبعينيات القرن الماضي، بدأت الاستراتيجية تأخذ منحنى جديد. كان الأردن أول من توصل إلى ممارسة تحالف سري استراتيجي مع “إسرائيل” في عام 1970، حينها قرر الأردن الانسحاب من القضية الفلسطينية وطرد الفلسطينيين من أراضيه
وتبعتها مصر بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979م، وبدأت السودان وعمان والمغرب وتونس والمغرب والأردن ودول الخليج في التطبيع مع الكيان الصهيوني السر، حيث تعود علاقة الكيان الصهيوني بعُمان، مثلاً، إلى سنة 1979م.
وفي نفس الوقت الذي وقع فيه الكيان الصهيوني اتفاقات ملزمة مع مصر والأردن وأقام علاقات سرية مع غيرهم، كان يواصل سياسة الحوار السري لكن مع منظمة التحرير الفلسطينية ، ففي 1976م نظم هنري كوريل ما عرف ب”لقاءات باريس “لإجراء اتصالات بين الفلسطينيين والإسرائيليين للاعتراف المتبادل بينهما ضمت مستشار عرفات
لتبدأ مرحلة جديدة من التطبيع تميزت بتراجع أيدولوجية التحرير الكامل لفلسطين إلى الحديث عن مبادرات سلام، وانكسر أول جدار لمعارضة التطبيع المتمثل في الحكومات في العالم العربي، والتي فتحت أبواب الحكومات الإسلامية والدولية المقاطعة لإسرائيل
المرحلة الخامسة: التطبيع الجماعي العلني
مع حلول الثمانينات والتسعينيات، وبداية انفراط التضامن العربي، تقدم مشروع التطبيع بخطوات متسارعة.
وتميزت الاستراتيجية، في الثمانينيات، بإغراء العرب بمبادرات سلام، وصولا إلى إنهاء الانتفاضة عبر التلويح لقادة منظمة التحرير بكيان فلسطيني بناء على قرارات الشرعية الدولية، حتى الوصول لاعتراف منظمة التحرير بدولة إسرائيل وخصوصا بعد “تقارب أردني قوي” في عام 1988.
وتطورت هذه الرؤية مع بداية عقد التسعينيات لتجعل التفاوض هو المرجعية لا الشرعية الدولية، وإعطاء أولوية للتطبيع بين الأنظمة العربية والكيان الصهيوني؛ إذ شهد النظام الإقليمي العربي تصدعاً كبيراً جرّاء حرب الخليج الأولى عام1990، وبدء مفاوضات السلام في مدريد عام 1991، وصولا إلى أوسلو 1993م مع منظمة التحرير، ووادي عربة 1994م مع الأردن.
المرحلة السادسة: من التطبيع إلى الشراكة
مع توقيع منظمة التحرير اتفاق أوسلو والأردن اتفاق وادي عربة ووقوف مصر كوسيط في الصراع لا كأصيل فيه، ظهرت العلاقات الإسرائيلية العربية إلى العلن، ابتداء من عمان سنة 1994م من خلال مكاتب لرعاية المصالح التجارية بينهما. تبعتها خلال الفترة من 1996–2000 كلا من المغرب وموريتانيا وقطر وعُمان وتونس. والآن وحسب “حملة المقاطعة–فلسطين، فإن ثمة 15 نظاماً عربياً يقيمون علاقة بشكل أو بآخر مع الكيان الإسرائيلي
وخلال ولاية الرئيس الأمريكي الحالي ترامب، انتقلت استراتيجية التطبيع إلى آفاق غير متوقعة، حيث انتقل الأمر من التعاون الاقتصادي والتبادل الدبلوماسي والتعاون الأمني إلى التفاهم على المصالح، وأخيراً، كما بدا في مؤتمر وارسو الأخير، الوصول إلى التحالف بين الأنظمة العربية والكيان الصهيوني لمواجهة الأخطار الحقيقية أو المتوهمة من الإرهاب الإسلامي حتى إيران.
وانتقال النظم العربية من اعتبار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو أهم مسألة يجب حلها، إلى الاعتقاد أن التحدي الأكبر في تاريخهم مصدره الجمهورية الإسلامية في إيران، وأنه من دون تأثير إيران السام يمكن الاقتراب من حل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، لأنهم من يدعم حركتي حماس والجهاد الإسلامي
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان