دفعني تفاعل القراء الواسع مع مقالي الأسبوع الماضي والذي كان بعنوان ( أسرار الشخصية المصرية ) . للبحث عن أهمية الأرض ( أرض مصر ) التي تربى فيها المصري وصنعت تلك الشخصية الفزة التي تغلبت على كل الصعوبات على مر العصور. وحيرت الخبراء والباحثين والمؤرخين الذين فشلوا في تفسير القدرة الخارقة التي يتميز بها المصري وتظهر في وقت الضرورة ويصنع بها المعجزات التي تبهر العالم قديما وحديثا .
فلا تزال الأهرامات ، التي بناها المواطن المصري البسيط ، لغزا لم يكتشف العلماء حتى الآن كل اسراره. وهو نفسه المصري البسيط في العصر الحديث الذي حطم خط بارليف الإسرائيلي الحصين في حرب اكتوبر عام 1973 الذي كان يعتبره الخبراء العسكريون اقوى خط دفاعي في العصر الحديث . والغريب انه استخدم في تدميره وسيلة بسيطة لا تخطر على بال الاخرين وهي الدفع المائي .
وطرحت سؤالا: هل تختلف أرض مصر عن غيرها من البلاد حتى تربى بين ابنائها الكثير من العباقرة الذي ساهموا ولا يزال يساهمون في بناء مسيرة الحضارة الانسانية . وبلغ من تأثيرها أنها عجنت حتى الغزاة بطينها ومياهها وهوائها حتى اصبحوا مواطنين مصريين ، مثل المماليك الذين تصدروا الصفوف للدفاع عنها وعن العالم بأسره ضد همجية التتار .
وبعد بحث موسع كانت الإجابة بنعم ، فالإنسان الذي يتربي على ارض مصر أو يعيش في كنفها تكون له سمات مميزة . والا لماذا كانت مصر كما يقال “اختيار سيدنا نوح عليه السلام لولده، وكذلك صارت اختيار الحكماء لأنفسهم، واختيار عمرو بن العاص لنفسه، واختيار مروان بن الحكم لابنه عبد العزيز وهكذا”.كما ذكر الشيخ رفاعة الطهطاوي في مقدمة كتابه القيم (مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية) والذي يعتبره الباحثون أول كتاب يكتب عن الشخصية المصرية فى العصر الحديث. وأجاب الشيخ الطهطاوي عن سبب هذا الإختيار بقوله في نفس الكتاب: ” كيف لا وهي بَلَدُ العِلْم والحكمة من قديم الدهر وحِدِيثِه، ومنها خرج العلماء والحكماء الذين عمَّروا ممالك الدنيا بتدبيرهم وحكمتهم وفنونهم وصنائعهم، ولَمْ تَزَلْ إلى الآن يسير إليها طلبة العلم وأصحاب الفهم من سائر الأقطار لتحصيل درجة الكمال، وكفاها فخرًا أن الله سبحانه وتعالى اسماها في كتابه العزيز ” خزائن الأرض”.
وتحدث عن عظمة مصر العالم الفرنسي فورييه في مقدمة كتاب ”وصف مصر” في الطبعة الثانية التي صدرت في بانكوك، والذي ساهم في وضعه 160 عالما وفنانا فرنسيا رافقوا نابليون في حملته على مصر عام 1798م .
وقال فورييه بالنص : ” لم يسبق لأي بلد آخر أن خضع لأبحاث بمثل هذا الشمول والتنوع، كما أنه لا توجد بلاد أخرى جديرة بأن تكون موضوعا لأبحاث كهذه. فمعرفة مصر أمر يهم كل الأمم المتحضرة في حقيقة الأمر، نظرا لأن هذه البلاد هي مهد الفنون والنظم الدينية، وبإمكانها اليوم أن تصبح مركزا للعلاقات الدولية وتجارة الإمبراطوريات، كما ترك الشعب الذي كان يسكنها آثارا تدعو للإعجاب بعظمتها وقوتها ونفوذها”.
ويفسر عظمة مصر تفردها عن دول العالم بحب ابنائها الزائد لدرجة ان البعض أسماه ” ادمان حب مصر ” . فقد تغربت للعمل فترة في السعودية ،وقابلت مغتربين كثيريين يعيشون حياة مؤقتة او ” تزانزيت ” في انتظار الحياة الحقيقية عند عودتهم لمصر. والغريب ان حياة التزانزيت تلك قد تمتد لعشرات السنين.واعرف مصريين قضوا كل غربتهم من أجل بناء بيت في الوطن ، وبعضهم مات قبل ان يسكنه. وفي الوقت نفسه قابلت جنسيات اخرى كانت تعيش حياتها كاملة في البلد التي يعملون فيه قليل منهم يفكر في بلده الأصلي.
وعند برج ايفل في باريس قابلني مصري من اسوان يعيش في فرنسا منذ 25 عاما وحاصل على الجنسية الفرنسية ولكنه قام ببناء مقبرة في بلده واوصى ابنائه ان يدفن في مصر بعد موته .
أنها مصر يا سادة التي قال عنها الزعيم الراحل مصطفى كامل ” لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا”.
وقد لخص عظمة موقع مصر المفكر الدكتور جمال حمدان في عنوان كتابه القيم ( شخصية مصر .. دراسة في عبقرية المكان ).