إن كثيراً من الأهداف النبيلة التي يتم السعي لها تصطدم بالثقافة المجتمعية والتي تكون لها عائقاً أمام الوصول للنجاحات المطلوبة، ولذلك فمحاولة فهم الثقافة الوطنية فهماً دقيقاً والتعامل معها بما يناسبها قد يكون الطريق الأسرع والأشد فاعلية في تغييرها. وجهد البروفيسور هوفستيد هو جهد بشري يصيب ويخطئ يستلزم من المختصين والمهتمين في أمتنا المباركة – وهم كثر ولله الحمد – في هذا الجانب المهم دراسة هذه النظرية وتقييمها والاستفادة منها بما يمكن الاستفادة منها ولا يخالف ثوابتنا الشرعية فالحكمة ضالة المؤمن.
“الثقافة هي في كثير من الأحيان مصدر للصراع أكثر من كونها مصدرًا للتآزر. والاختلافات الثقافية هي في أفضل الحالات مصدر للإزعاج، وفي كثير من الأحيان مصدر للكوارث.” وعلى الرغم من الأدلة التي تشير إلى أن الجماعات تختلف عن بعضها البعض، فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن أعماق جميع الناس هي واحدة. وفي الواقع، فإنه نظرًا لأننا لا ندرك بشكل عام ثقافات البلدان الأخرى، فإننا نميل إلى التقليل من الاختلافات الثقافية. وهذا يؤدي إلى سوء فهم [سوء تفسير بين الناس من مختلف البلدان].
فبدلاً من ظاهرة التقارب التي توقعناها مع توفر تكنولوجيات المعلومات ( “ثقافة القرية العالمية”)، لا تزال الاختلافات الثقافية ذات شأن كبير اليوم ويميل التنوع إلى الزيادة. لذلك، فإنه من أجل أن نكون قادرين على التمتع بعلاقات محترمة بين الثقافات، يجب أن نكون على دراية بهذه الاختلافات الثقافية.
وفي ظل هذا النموذج، سلط جيرت هوفستد الضوء على هذه الاختلافات. ويمكن استخدام هذه الأداة لإعطاء لمحة عامة وفهم تقريبي للثقافات الأخرى وما يمكن توقعه منها وكيفية التصرف تجاه الجماعات من البلدان الأخرى
تصف نظرية جيرت هوفستد للأبعاد الثقافية آثار ثقافة مجتمع ما على قيم أعضائه ومدى ارتباط هذه القيم بالسلوك، وذلك باستخدام بنية مستمدة من تحليل العوامل. وجرى استخدام هذه النظرية على نطاق واسع في العديد من المجالات كنموذج للبحث، لا سيما في علم النفس بين الثقافات والإدارة الدولية والتواصل بين الثقافات. وطور هوفستد نموذجه الأصلي نتيجة لاستخدام تحليل العوامل لفحص نتائج مسح على مستوى عالمي حول قيم الموظفين من قِبل شركة آي بي إم (IBM) في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. وكانت النظرية إحدى أولى النظريات التي يمكن تقييمها كمًا، ويمكن استخدامها لتفسير الفوارق الملحوظة بين الثقافات.
واقترحت النظرية الأصلية أربعة أبعاد يمكن من خلالها تحليل القيم الثقافية: الفردية-الجماعية؛ وتجنب عدم اليقين؛ ومسافة السلطة (قوة التسلسل الهرمي الاجتماعي)، فضلاً عن الذكورة-الأنوثة (التوجه حسب المهام مقابل التوجه الشخصي). ودفعت البحوث المستقلة التي تم إجراؤها في هونغ كونغ هوفستد إلى إضافة بعد خامس؛ وهو التوجه طويل المدى؛ لتغطي جوانب القيم التي لم تُناقش في النموذج الأصلي. في طبعة عام 2010 من كتاب الثقافات والمنظمات: برامج للعقل (Cultures and Organizations: Software of the Mind)، أضاف هوفستد بعدًا سادسًا، وهو الاسترسال مقابل ضبط النفس، كنتيجة لتحليل البيانات الخاص بمايكل مينكوف من مسح القيم العالمي. وعملت أبحاث إضافية على تحسين بعض الأبعاد الأصلية وأدخلت الفرق بين البيانات على المستوى القطري والبيانات على المستوى الفردي في التحليل.
وأرسى عمل هوفستد تقليدًا بحثيًا رئيسيًا في علم النفس الثقافي وتم الاعتماد عليه أيضًا من قِبل الباحثين والاستشاريين في الكثير من المجالات المتعلقة بالأعمال والاتصالات الدولية. ويظل مرجعًا رئيسيًا في المجالات بين الثقافات. وقد ألهم عددًا من دراسات القيم بين الثقافات الرئيسية الأخرى، وكذلك البحوث الخاصة بالجوانب الأخرى للثقافة مثل المعتقدات الاجتماعية.
لقد أصبح موضوع الثقافة محل اهتمام كثير من المهتمين في العلوم الإنسانية وهناك من يرى أن الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يشتمل علي المعرفة والعقائد والفنون والقيم والعادات التي يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع
وهناك من يرى أن الثقافة عبارة عن تنظيم يشمل مظاهر لأفعال وأفكار ومشاعر يعبر عنها الإنسان عن طريق الرموز أو اللغة التي يتعامل معها وبهذا المعنى تكون الثقافة عبارة عن تاريخ الإنسان المتراكم عبر الأجيال وهناك نظرات أخرى كثيرة منها من يرى أن الثقافة صفة مكتسبة أو أنها كيان مستقل عن الأفراد والجماعات علي أن تلك المفاهيم جميعا تدور حول معنى واحد وهو أن الثقافة كل مركب من مجموعة مختلفة من ألوان السلوك وأسلوب التفكير والتكامل والتوافق في الحياة التي اصطلح أفراد مجتمع ما علي قبولها فأصبحوا يتميزون بها عن غيرهم من باقي المجتمعات
ويدخل في ذلك بالطبع المهارات والاتجاهات التي يكتسبها أفراد المجتمع وتتناقلها في صور وأشكال مختلفة أجيال بعد أخرى عن طريق الاتصال والتفاعل الاجتماعي وعن طريق نقل تلك الخبرات من جيل إلي جيل وقد يتناقلونها كما هي أو يعدلون فيها وفق تغير الظروف وحاجتهم ولكن الجوهر يبقى كما هو .
فالثقافة هي ذلك الجزء من البيئة الذي قام الإنسان بنفسه علي صنعه متمثلا في الأفكار والمثل والمعارف والمعتقدات والمهارات وطرق التفكير والعادات وطرق معيشة الأفراد وقصصهم وألعابهم وموضوعات الجمال وأدواته عندهم ووسائلهم في الإنتاج والتقويم والموسيقى التي يعزفونها والنظام الأسري الذي يسيرون عليه ووسائل انتقالهم والمعارف التي تشيع فيهم وغير هذا كثير وكثير جدا مما أنشأه الإنسان ليجمع بين أفراد مجتمع من المجتمعات ويربط بين مصالحهم بمعنى آخر هي مجموع العادات السائدة واللغة والديانات والاختراعات والعلوم في المجتمع والتي يتميز بها مجتمع عن آخر وتؤدي إلي تحقيق وظائف الحياة الاجتماعية .
فالثقافة هي وليدة البيئة وثمرة التفاعل بين الأفراد لبيئاتهم لذلك كان من الطبيعي أن تتعدد تعددا بينا وتختلف باختلاف البيئات لأن هذه الأخيرة مختلفة اختلافا واضحا وكان من الطبيعي كذلك أن تتعدد تعريفاتها وتختلف . فمنها ما هو بالغ العمومية والاتساع كتعريفها علي أنها طريقة حياة شعب من الشعوب أو هي من نتاج التفاعل الإنساني وليست كل طريقة من طرق الحياة وليس كل نتاج من نتاج التفاعل الإنساني ثقافة لأن الثقافة تقتضي اشتراك فثمة طرق وتفاعلات خاصة بل بالغة الخصوصية .ومنها ما هو بالغ الخصوصية كتعريفها علي أنها مجموعة من المعتقدات والممارسات المتوارثة اجتماعيا أوهي كل أنواع السلوك التي تنتقل بواسطة الرموز أو هي تنظيم خاص من الرموز فالثقافة لا تقتصر علي الموروثات الاجتماعية التي انحدرت من الماضي فحسب فهذا تغير للحاضر الذي نحياه ونعلمه والمستقبل الذي تصورناه وتأمله والثقافة كذلك لا تنحصر في تنظيم خاص من الرموز لأنها أوسع من ذلك بكثير كما أنه من الصعب ترميز كل مكوناتها وقد وجدت الثقافة قبل أن تعرف الأمم الرموز وكم من مثقف علي درجة عالية لا يأنس بالرموز ولا يعرفها هذا مع اعترافنا بأهمية الرموز وضرورتها .
والثقافة بهذا المعنى لا توجد في غير مجتمع كما لا يوجد مجتمع بدون ثقافة ومن ثم فكل من الثقافة والمجتمع يعتمد في إدراك معناه علي فهم معنى الآخر وإدراكه وإن كان أحدهم لا يعني الآخر علي وجه التحديد وهي بهذا المعنى تختلف من مجتمع إلي أخر فمكونات الثقافة في أحدهم تختلف عن مكوناتها في الآخر كما أن الثقافة في المجتمع الواحد تختلف في فترة زمنية عنها في فترة زمنية أخرى فإن الظروف والأحوال التي تطرأ علي مجتمع ما كثيرا ما تدفع الناس إلي أن يعدلوا من أفكارهم ومعتقداتهم ووسائل معيشتهم وأساليبهم العلمية وأنواع المعرفة لديهم ونظمهم السياسية والاقتصادية ويعني هذا بالطبع اختلاف عناصر الثقافة وتغير معالمها وتعتبر المدنية أو الحضارة Civilization آخر مرحلة من مراحل الثقافة إذ أنها تمتاز بالصناعات الضخمة والفنون المتقدمة ويميز بعض العلماء بين الثقافة والحضارة بقدر ما بين الاثنين من اختلاف كمي في المحتوى ومن تعقيد في النمط مع عدم اختلافهم في النوع .
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان