قد يظن البعض أن الحرية تفقد وجودها وقيمتها وجوهرها في ظل الالتزام، ذلك أن الالتزام قيد، والذي يدفع إلى هذا الظن إنما هو النظرة السطحية التي تطل من خارج نفس الفنان، لا من داخلها.
إن الفنان المسلم في حرية كاملة، تأخذها أبعادها في مشاعره وتصوراته، كما تأخذها – أيضاً – في حياته العملية التطبيقية. ذلك أنه قد طرح من حسابه ما وراء القيد الذي يفرضه الإسلام – إذ الإسلام حرية القيد لا حرية الحرية – طرحه من حساب فكره، وحساب عمله، فأصبح في زاوية الإهمال أو في زاوية السلب، كما تقول لغة الرياضيات، ولعلنا بالمثال نكون أكثر وضوحاً.
إن الخمر محرمة في الإسلام، فالفنان المسلم – وكل مسلم – يخرج الخمر من حياته.. فلا يعود لها وجود فيها، ولذلك لا يشعر أن حريته قد تأثرت بمنع الاقتراب منها.. وكذلك جميع الممنوعات الأخرى.. وإذا بقي لها من وجود، فهو وجود الشر الذي يحذره ويبتعد عنه بدافع القناعة الكاملة، والحرية الكاملة، لا بل بما هو أكبر من دافع الحرية، ألا إنه دافع الحفاظ على الحياة.
إن الالتزام لا يخدش كرامة الحرية، ولكنه يبعثها من منطلقات صحيحة، ويحلها في مكانها اللائق بها، بعيدا عن منحدرات الإسفاف والرذيلة
أفلاطون ينادي بضوابط أخلاقية للفن
إن وضع الضوابط التي تحفظ خصوصيات الناس، وتحمي حرماتهم ومقدساتهم وثوابتهم أمر مهم، وليس الإسلام بدعاً فيه، بل نادى به غربيون وفلاسفة يوقرهم أهل الفن والإبداع، يقول الفيلسوف الكبير أفلاطون: “فالفن بالإجمال أداة إيهام وتخييل، والشعر دجل كالتصوير، إذا نزع عنه سحر اللفظ والتوقيع بدا شاحباً فقيراً، يستطيب وصف العواطف، وهي متقلبة متنوعة، ولا يجد له موضوعاً في العقل الثابت الهادئ، فيهيج العواطف، ويشل العقل، مثله مثل طاغية يقلد السلطة للأشرار ويضطهد الأخيار، فإنه يوحي بالعطف على أفعال وانفعالات رديئة، ويضعف أشرافنا على الجزء الشهوي من النفس، فيحرك فينا البكاء تارة، والضحك طورا، ويدفعنا ونحن نشهد التمثيل إلى استحسان ما ننكره في الحياة الحقيقة وإلى التصفيق لما نغضب له في الواقع.
والتراجيديون لا يرمون لغير إحراز إعجاب الجمهور، والجمهور لا يميل إلى الأشخاص الحكماء الرزينين، بل يطلب أشخاصاً شهويين متقلبين، تملأ تقلباتهم وشهواتهم القصة، فيلهو بها، ويميل معها إلى كل جانب. وأما الكوميديا فهي رديئة بالذات، تضحك من إخواننا في الإنسانية، وتنمي حاجة المزاح والسخرية. وإذن فعلى الشارع أن يراقب جميع مظاهر الفن، وجميع الفنانين من شعراء ومغنين، وممثلين، ومصورين وغيرهم، فيخلق بيئة كلها جمال سلمي رزين، وينشئ مواطنين كاملين يتوجهون إلى الفضائل عفواً، ويصون نفوسهم كل خدش، إذ ليست الغاية من الفن توفير اللذة، بل التهذيب والتطهير
أديب إيطالي يشن حملة على الأدب الرخيص
وما قال به أفلاطون من رفض ما هو مشين من الفنون والأدب، نادى به أديب إيطالي، بل شنَّ حملة شعواء ما يمكن أن نسميه الأدب الرخيص أو الأدب الهابط، وهو: الأديب الإيطالي المعاصر جيوفاني بابيني حيث يرى إن الأديب إذا ألمع إلى الأخلاق السامية، والمناقب العالية صبوا عليه جام غضبهم، وحسبوه واعظاً متزمتاً. وإذا تحرك إيمان القراء لقتل الأهواء الفاسدة أسموه ناسكاً مأفوناً، وإذا حاول آخر أن يعلم تعليماً مفيداً له فيه خواطر مصيبة أطلقوا عليه لقب رجعي.
واليوم – ولا أجاوز الحق في القول – تسود العالم موجه من الأدب الرخيص الذي لا غاية له إلا قتل الوقت، وهو يقوم على ركنين: طباعة متقنة مزينة بصور عارية يندى الجبين لها خجلاً، فضلاً عن بعدها عن الفن الرفيع، ثم دعاوى ساحقة بإطار جذاب من إنتاج الفكر الجديد بأسلوب جديد، والمفكر يقف حيال ذلك متسائلاً: ماذا يبغي هؤلاء من كل ذلك؟
وهناك نوع آخر من القصص، لكنه ليس بأوفر حظاً من سابقه. إن أمثال هذه القصص لا تحتوي شيئاً ساخراً، بل كل ما فيها مغامرات غرامية تحارب الأخلاق الكريمة، أو محسنات لفظية، وصور خيالية تقتل ملكة البلاغة في القارئ، وطابع كل ذلك التجارة والظهور، وتكديس الأموال، ولو على حساب الأخلاق.
إن العالم يسير بخطى واسعة إلى الحرب الشاملة، فبدلاً من أن نقتل الوقت في كتابة قصص من هذا النوع المزري علينا أن نعالج موضوعات الساعة، ونلفت إليها الأنظار، ونحاول أن نثير الرأي العالمي على دعاة الحرب والانحلال الخلقي.
إننا بحاجة إلى شيء آخر غير الأقاصيص الموشاة بحوادث الحب والغرام، والقتل والسرقة والنهب وقطع الطرق. نحن بحاجة إلى كلمات صادرة عن إيمان حي، ويقظة وحب، وحكمة وصلاح، وإزالة سوء التفاهم من بين الشعوب، وأنتم أيها السادة الأدباء تأتوننا بقصة في أربعمئة صفحة من القطع الكبير لتقولوا لنا: إن السيد فلان قد نجح في آخر المطاف، واستمال السيدة فلانة إلى ارتكاب خطيئة تعاقب عليها القوانين الإلهية والإنسانية.
إن بعض الأدعياء يعتقدون أن الانفصال يجب أن يكون تاماً بين الفن والأخلاق، فكأنهم يقولون: إن فكرة الخير لا توحي الفن، بل فكرة الشر هي الموحية به.
إن افكار الخير متى كانت دماً من دم الفنان، ولحماً من لحمه فلا خوف عليه، لأنه يستطيع أن يوافق بين الفن والأخلاق على شريطة أن يملك ناصية التعبير، وفي بعض الأحايين نرى نار المحبة تحول البسطاء بالروح إلى شعراء موهوبين.
إن الأديب بعد إتقانه فنون البلاغة، وأساليب الفصاحة عليه أن يكون معلماً ماهراً، وأخلاقياً رفيعاً. وهذا تقليد مقدس في الأدب الإيطالي، كما هو تقليد مقدس في الأدب العربي. إن فلاسفة اليونان الأولين نظموا شعراً، والشعراء في ملاحمهم وشعرهم الغنائي ومآسيهم مزجوا الخطرات الفلسفية، والتعاليم الأخلاقية، بالصور الشعرية، والزخارف اللفظية. ولعل قصة هاملت هي أشهر مآسي شكسبير لأنها فياضة بالأفكار الدقيقة، والتعاليم الأخلاقية السامية
هذه شهادة أديب إيطالي، وقد تعمدت نقل مجمل مقاله الطويل، حيث إنها شهادة من غربي ورأيه، فلن يتهمه أحد من جهابذة وأدعياء الإبداع، بأنه رجعي متزمت، ورغم قدم المقال إلا أن الرجل في كلامه كأنه يحيا بين ظهرانينا اليوم، ويرى هذا اللون من الأدب، الذي أطلق عليه الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: أدب قلة الأدب!!
وقد رأينا هذا الالتزام بضوابط صارمة في الفن الغربي، ولم يعب أحد عليهم ذلك، فعندما أنتجت بعض شركات السينما العالمية فيلما عن المسيح عليه السلام، اشترطت على الممثل: ألا يؤدي أي أدوار سينمائية أخرى، وقد أجزلوا له في أجره المادي، كي يغنيه عن ذلك، والسبب الذي دعاهم لهذا الضابط والشرط الشديد: هو مخافة أن يقوم الممثل بدور فني يمثل فيه دور ساقط، أو شرير، مما يسيء إلى صورة المسيح في ذهن المستمع.
وهناك ضوابط شديدة في السينما الغربية، فيما يقدم للأطفال، وما لا يقدم، وفي أي سن، فممنوع في سن معين مشاهد الجنس، أو مشاهد العنف.
وكثيراً ما نقرأ ونشاهد أهل النقد الفني، عند تقييمهم لفنان “ممثل”، فيقال في تقييمه في هذا الفيلم أو المسرحية: هو فنان ملتزم، لا يخرج عن النص، ويلتزم به، لأن النص الذي كتبه الكاتب والسيناريست، مطلوب من الممثل أن يؤديه بلا تحريف له، أو خروج عنه، ويقال عن فنان آخر من باب نقده وذمه: هو يخرج كثيراً عن النص، مما يضعف البناء الدرامي للعمل.
الضوابط الأخلاقية والحديث عن الجنس
وهو محور بلا شك سيتبادر إلى الذهن عند الحديث عن الضوابط الأخلاقية للفنون، فهل يقف الإسلام موقفاً ممانعاً من الحديث عن الجنس، بدعوى أنه ممنوع ومحرم، وكلام لا يليق، وكيف يكون دور الفن هنا؟ لقد تناول القرآن والسنة قضايا جنسية، وتناولت كتب الفقه الإسلامي الحديث عن القضايا الجنسية، ولكنها تناولتها من خلال السياق العام للموضوعات، ولم تكن مركزة بشكل يثير الغرائز، أو يحرك الشهوة بشكل مستفز، ولم تكن مجتمعة، فالطالب الأزهري مثلا يأخذ قسطاً من المصطلحات والقضايا الجنسية في دراسته الأزهرية لكنها متفرقة، فهو يلتقي مع الأعضاء التناسلية للجنسين في آداب الخلاء، وعند الوضوء في نواقضه، والتي منها: مس الفرج (الذكر أو الأنثى)، وعند موجبات الغُسْل، والتي منها: الجماع، والاحتلام. ويلتقي عند أنواع السوائل التي تسيل من فرجه، مثل: الودي، والمذي، والمني.
وفي باب المعاملات، يلتقي بالثقافة الجنسية، في أكثر من موضع، ففي باب الزنا يجد في تعريفه: هو لغة: الوطء، وعن شروطه وكيفية تحققه، والتي يجد فيها عبارات الفقهاء التالية: أن يرى الزانيين، في وضع الزنا، كميل القلم في المحبرة، والعصا في البئر، وهو تشبيه لوضع الجماع. وعند باب النكاح (الزواج)، يجد من عبارات الفقهاء: ما الحكم لو جامع مقطوع الحشفة، هل يعد ذلك دخولاً؟ ومقطوع الحشفة هنا: أي مقطوع رأس الذكر، ويجد في العيوب التي يحق للزوجين فسخ النكاح بها وفيها عيوب تفصيلية في الفرجين، أو عدم القدرة على الجماع. ويجد عند جماع الزوجين متى يتم الغسل، فيجد عبارة كعبارة “الإكسال”، وهي جماع الزوجين، ولكن بلا إنزال، لعارض ما، أو بدون عارض، وهكذا.
وعندما كان الشيخ أحمد ديدات يناظر القس الأمريكي جيمي سواجارت عن قصة مريم عليها السلام، سأله ديدات: عندنا عرض عليه قصة مريم وحملها من القرآن ومن الإنجيل، فقال: أيهما تطمئن أن تقرأه ابنتك دون خجل؟ فقال سواجارت: القرآن.
وقد يرى البعض أن وصف دقائق النزوة الجنسية قد يفيد من الوجهة العلمية والدراسات السيكولوجية، لكنهم يتجاهلون أن كتاباً لعلم النفس يختلف تماماً عن قصة من حيث الطريقة والتأثير، إن الكتابات العلمية لا تحرك غريزة الإنسان وإن كانت تنمي من معارفه وتوسع من ثقافته ولا تحرص على ارتكاب إثم من الآثام، أما القصة ـ مثلاً ـ بما فيها من ظلال موحية، وأسلوب أدبي شاعري مؤثر، وإفراط عاطفي مثير، وسلاسة وبساطة في التعبير، وانطلاق من قيود المنهجية والتجريبية العلمية، كل هذا يبطل تلك الدعوى الآثمة، ويجعل من أدب الجنس ـ أدب الفراش والتخدير ـ جريمة في حق أخلاقياتنا. ثم هناك فرق كبير بين الحب والجنس. الجنس غريزة ملتهبة. والحب عاطفة روحية رفافة. هذا مع تداخل عواملها السيكولوجية.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان