مر الاقتصاد المصري بعدة مراحل هامة وحرجة خلال الثلاث عقود المنصرمة لكن يظل العقد الأخير هو أخطر وأصعب الفترات التي واجهها الاقتصاد المصري لكثرة التحديات والصعاب التي تكالبت على مصر الواحدة تلو الأخرى، لكن بفضل الله ثم جهود أجهزة الدولة ومؤسساتها بدعم وتوجيه من القيادة السياسية، نجحت مصر في عبور تلك الصعاب بل وتثبيت ركائز الدولة وأعمدة الاقتصاد المصري؛ ليكون محطّ إعجاب الدول الكبرى، وموضع إشادة من كبرى المؤسسات الاقتصادية الدولية.
أن الدولة التي خرجت من أحداث سياسية متعاقبة في 2011 و2013، كانت تعاني من تداعيات تلك التطورات، مما انعكس سلبا على المؤشرات الاقتصادية كافة، كتراجع الاحتياطي النقدي وارتفاع نسب البطالة والتضخم وغير ذلك، حتى هبوط تصنيف مصر الائتماني لأكثر من مرة.
لان اقتصاد مصر سينمو 2.8% في السنة المالية التي تنتهي في يونيو القادم، في تباطؤ عن توقع كان 3.3% قبل ثلاثة أشهر. يقل متوسط التوقعات الصادر في أكتوبر كثيرا بالفعل عن نمو متوقع كان بنحو 6% قبل تفشي جائحة فيروس كورونا.
وانه من المتوقع نموا قدره 3.3% في السنة المالية الجارية. تسببت الجائحة في انهيار القطاع السياحي وتباطؤ بقية قطاعات الاقتصاد. إن ثلاثة ملايين سائح فحسب زاروا البلاد في 2020، بما يقل نحو 23% عن عدد السائحين في 2019.
وتعكس صلابة الاقتصاد المصري مختلف المؤشرات الاقتصادية، وهو ما أرجعه اقتصاديون مصريون إلى “خطة الإصلاح الاقتصادي” التي اتبعتها الحكومة، والتي وازنت فيها بين الإجراءات الاقتصادية الصعبة والبرامج الحمائية، وهي الخطة التي انتشلت الاقتصاد المصري من مسارات خانقة ومؤشرات متدنية في وقت سابق، بعد سلسلة التطورات السياسية التي شهدها البلد منذ عام 2011.
أن الإصلاحات الاقتصادية الجادة التي بدأت منذ عام 2017 ساهمت في تعزيز مرونة الاقتصاد المصري وجعله أكثر قدرة على مواجهة الصدمات. وكانت مصر إحدى الدول القليلة التي تمكنت من تحقيق نمو اقتصادي في عام 2020، إذ وصل معدل النمو إلى 3.6% في السنة المالية 2019-2020 مقابل 5.6% في العام السابق،
يعد الاقتصاد المصري من أكثر اقتصادات الشرق الأوسط تنوعًا، حيث يعتمد على عدة قطاعات منها؛ الزراعة والصناعة والسياحة والخدمات، بالإضافة إلى أحدث القطاعات، وهو قطاع الغاز والتعدين الذي تعتمد علية الآمال والطموحات في الفترة القادمة لدفع الاقتصاد المصري؛ ليكون ضمن أكبر عشر اقتصادات على مستوي العالم بحلول 2030.
قامت مصر بتطبيق مجموعة من القرارات السياسات المالية والنقدية كنتيجة لتصاعد الأزمة المالية العالمية والحد من تداعياتها السلبية على الاقتصاد المصري، فالأزمة المالية العالمية أحدثت صدمة في أسعار الغذاء والطاقة، وكذلك العديد من أسعار السلع الأولية؛ مما شكل تهديدًا مباشرا للمصريين لا سيما أصحاب الدخول المتوسطة والمنخفضة، حيث إن حجم إنفاقهم على المواد الغذائية تراوح بين 45% إلى 60% من حجم الدخل الشهري، مما دفع الحكومة المصرية لاتخاذ إجراءات استراتيجية سريعة؛ بهدف التخفيف من تلك الآثار السلبية للأزمة المالية العالمية والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
وبالتطرق إلى معدل التضخم، سنجده أنخفض بشكل ملموس ليسجل أفضل معدل منذ عام 2006، فقد أشار الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء، إلى أن معدل التضخم العام لسنة 2020 سجل نحو 5.1% مقابل نحو 8.5% خلال عام 2019.
يعد خفض معدل التضخم، والحفاظ عليه أحد الإنجازات التي حققها البنك المركزي المصري، وهو جني لثمار برنامج الإصلاح الاقتصادي، فكبْحُ جماح التضخم هو أحد الأهداف الأساسية للسياسة النقدية؛ نظراً لانعكاساته المباشرة على معدل النمو الاقتصادي، ومستوى معيشة المواطنين، ودوره في جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، وهو الهدف الذي نجحت البنك المركزي المصري في تحقيقه خلال العام الماضي، بالرغم من جائحة كورونا وتداعيتها السلبية على مختلف اقتصادات العالم.
لكن هناك جانب آخر من الاصلاح الاقتصادي، بخلاف اجراءات علاج عجز الموازنة وجذب الاستثمارات الاجنبية، وهو توفير الحماية الاجتماعية للطبقات الفقيرة والمتوسطة التي يمكن ان تضرر من هذه الاصلاحات، وهو جانب ترى مجموعة من القوى السياسية في مصر انه لا يحظى باهتمام كاف من قبل الدولة، وتطالب بان تسير اجراءات الحماية الاجتماعية جنبا الى جنب مع اجراءات رفع الدعم عن سلع اساسية.
بالرغم من انتهاء تنفيذ خطة صندوق النقد الدولي بتحقيق تحسن كبير في احتواء الاستهلاك المحلي وفي بعض القضايا الهيكلية، فإنه ما تزال هناك تحديات أمام النمو الاقتصادي الشامل والمستدام، حيث أن الاستثمار الخاص المحلي ما يزال بحاجة إلى التحفيز، وما يزال الاستثمار الأجنبي المباشر ضعيفاً، كما أن مصر ما تزال تعتمد اعتماداً كبيراً في سد فجوة التمويل الخارجي على تدفقات الديون الخارجية واستثمارات المَحَافظ الأجنبية في الأوراق المالية الحكومية. وما تزال الخصخصة والشراكات بين القطاعين العام والخاص غير مواكبة، وتنمية رأس المال البشري تواجه مشكلات، وما تزال هناك قضايا رئيسة تتعلق بتعقيد الإجراءات الإدارية، وعدم الكفاءة، وإعادة تحديد أدوار القطاعين العام والخاص.
رغم نجاح خطة الإصلاح الاقتصادي المصري بدعم من صندوق النقد الدولي في تحقيق تحسن كبير في احتواء الاستهلاك المحلي ومعالجة بعض القضايا الهيكلية، ما تزال هناك تحديات للنمو الاقتصادي المستدام: فالاستثمار الخاص المحلي ما يزال بحاجة إلى التحفيز، والاستثمار الأجنبي المباشر ما يزال ضعيفاً، والخصخصة غير مواكبة، وتنمية رأس المال البشري ما تزال تواجه مشكلات، والقضايا الرئيسة المتعلقة بالبيروقراطية والإجراءات الإدارية المعقدة، وعدم الكفاءة، وإعادة تحديد أدوار القطاعين العام والخاص ما تزال قائمة.
وبناء على هذا، هناك حاجة إلى جولة جديدة من الإصلاحات الاقتصادية من أجل معالجة المشكلات العالقة في ما يتعلق بجانب العرض في الاقتصاد المصري من أجل تعزيز الكفاءة وتحقيق النمو الاقتصادي المستدام. وينبغي أن تستهدف هذه الإصلاحات السياسات المتعلقة بتحسين رأس المال البشري، وزيادة دور القطاع الخاص من خلال- من بين أمور أخرى- تفعيل الخصخصة وتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وإزالة الاختلالات المتبقية، وتبسيط الإجراءات الإدارية، والعمل بشكل رئيسي على تحقيق تحسينات كبيرة في الترتيب العالمي لمصر في جميع عناصر مؤشر التنمية البشرية، ومؤشر ممارسة الأعمال، ومؤشر التنافسية العالمية.
ومن أجل تحقيق نمو شامل ومستدام، يوصى بوضع إطار سياسي لتعزيز جانب العرض في الاقتصاد، مدفوعاً بتحسين الترتيب العالمي لمصر في العناصر التي يشملها مؤشر سهولة ممارسة الأعمال، ومؤشر التنافسية العالمية. ويعمل إطار السياسات هذا على إصلاح أربع محاور رئيسة، تعرف اختصاراً بـ (CHEP)، ألا وهي: تحسين القدرة التنافسية، وتنمية رأس المال البشري، وتعزيز الكفاءة، ومشاركة القطاع الخاص.
في حين أن الزيادات الكبيرة في الأسعار الناجمة عن تراجع قيمة العملة سوف تنحسر على الأرجح خلال العام المقبل، لم تتجاوز مصر مرحلة الخطر بعد. من شأن عوائق أساسية أن تحول دون التقدّم بسهولة نحو اقتصاد مستقر وفي طور النمو، ومن الواضح أن المستثمرين الأجانب لا يزالون مترددين في توظيف أموالهم في البلاد. لكن إذا تمكّنت مصر من إبقاء ديونها الخارجية تحت السيطرة، والاستمرار في التحلي بالمسؤولية المالية، واستقطاب مزيد من الاستثمارات الخارجية المباشرة – ليس فقط من مديري الصناديق الذين يسعون إلى تحقيق أرباح نقدية سريعة من سندات الخزينة ذات الإيرادات المرتفعة – فهي قادرة على شق طريقها نحو النمو في المدى الطويل.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان