ان الاغلبية الحاكمة لاتملك ، دستوريا، وضمن مبادئ وتقاليد الديمقراطية، الحق في نكران حق الاقلية. فالاقلية هي جزء من مجتمع يتمتع بالحقوق الدستورية كافة. الحقوق السياسية والمدنية والثقافية والاجتماعية.
اي حقوق المواطنة التي تلغي مبدأ الاكثرية والاقلية في الحقوق . ولذلك لاتسن القوانين وفق الاغلبية السياسية وحدها وانما ضمن مصالح الاغلبيات الاجتماعية التي يمكن ان تمثلها الاقلية السياسية اكثر من الاغلبية السياسية التي تحرص، في احيان كثيرة، على التسيد والتسلط اللذين يكبحهما حق الاقلية الذي يتضمنه العرف الدستوري الديمقراطي. لكن، من الناحية الحقوقية ، ولضمان حقوق جميع المواطنين بمن فيهم الاقلية والاغلبية ، فان اعمق وابسط تعريف للدكتاتورية هي انها حكم اشخاص. كما ان ابسط تعريف للديمقراطية هي انها حكم قوانين.
المسألة هكذا صعبة وعسيرة، وهذه طبيعة زمن الفتنة، وكل ما نرجوه من العلماء أن يتجردوا في آرائهم، فيعلنوا ما يرونه صوابًا من وجهة نظرهم بناءً على ما عرفوه من قواعد الشريعة، وفي نفس الوقت نطلب من طلبة العلم وعوام الناس أن يرحموا العلماء من ألسنتهم، وألا يمارسوا عليهم ضغطًا يقودهم إلى الخطأ في الرأي، والزلة في القرار، وهذا لأن أحدًا لن يشارك العالم في حسابه أمام الله عز وجل، بل سيظل وحده مسئولاً عن الرأي الذي قاله، والقرار الذي اتخذه، وليعلم الجميع أن العلماء هم الذين يقودون الشباب والجموع، وليس العكس، وإلا تضاعفت مضار الفتنة،
لقد لعبت النخب السياسية والثقافية الطالعة على السلم الاجتماعي للدولة دورا خطيرا جدا في خوض الصراع لصالح الليبرالية والحقوق.كانت النخب الجديدة تحترم التزاماتها كما تحترم اهدافها العامة. لقز كانت معركة تمثيل الشعب غاية في الجدية والالتزام. لك تكن شعارا او مناورة.كلنت النخب مستعدة للتضحية وتحمل المسؤولية.
وكان الفكر الجديد، الداعي الى الحرية والحقوق والعقد الاجتماعي والمواطنة، يدعم مطالب الطبقات الوسطى الجديدة ويعكس حلجتها الى التنوير.لم يكن الدين مشكلة ولم يكن فصل الدين عن الدولة شعارا او مخططا. كان العمل يجري على تثبيت الحقوق والحريات ، وهو ماقاد الي ان يخسر الحكم حقه الالهي واطلاقيته ويصبح الدين قضية شخصية وليس قضية حكم.هذا ما تخاف منه جميع الانظمة السياسية العربية بما فيها من تدعي انها علمانية.
انها قائمة على حق الهي من نوع آخر.ان الدكتاتوريات غير الدينية هي دكتاتوريات منافية للعلمانية. لان العلمانية ليست عدم التدين وانما صفة للاجراءات الحقوقية والقوانين والمظاهر الليبرالية التي تعترف بالحريات الفردية والحريات السياسية للاحزاب وحرية المعتقد وحرية الصحافة وحيادية التعليم وحيادية الخدمة المدنية
لم تكن الافكار الليبرالية الا ثورية في زمنها. قد تبدو اليوم وكأنها اصبحت بسيطة ومتداولة في اوروبا، لكنها كانت ، قبل ثلثمائة سنة مثلما هي الان في الشرق. صذام بين التحرير من اللاهوت الغيبي وما فرضه من معتقدات وخرافات و(ظلمات وشياطين) على حد تعبير هوبز في (الليفيثان) كانت تمس حريات الناس وتتدخل في التقسيم الديني وما ينتجه من انعدام للتسامح والتعايش. كانت افكار جون لوك في (رسالة في التسامح) قد احدثت دويا هي الاخرى في وقت كانت فيه الحروب الدينية تعم اوروبا.
كانت الكنيسة قوية لكنها اصبحت تواجه افكارا عقلاينة وحقوقية تنبثق من الحاجة الى تحول المجتمع الى ظاهرة وظيفية تفكر وتقرر وتشارك في صنع حياتها. لذلك كانت افكار العقد الاجتماعي قبل روسو قد انبثقت في فكر هوبز ولوك باعتبارها افكارا تخص مفهوم الملكية ايضا، هذا المفهوم الذي لعب دورا في تحرير العقل ودفع الحياة التجارية في بريطانيا الى ان تكون صاحبة دور في صنع القرار السياسي الامر الذي اثار انتباه فولتير ومونتسيكيو اللذين اشادا بهده الظاهرة التي توسعت لتساهم في الثورة الصناعية وفي نمو رأس المال الذي اصبحت له وظيفة تعديل القوانين والتاثير في الحياة السياسية والفكرية.ان فكرة العقد الاجتماعي انتجت اهمية الفردية ضد الاطلاقية. واعطت للفرد الموقع الاول في تكوين الدولة باعتباره يتحد في عقد مع فرد آخر للقبول بفكرة الدولة باعتبارها حامية لحقوقه.
من القضايا التي شغلت اهتمام الفلاسفة والباحثين, هي قضية العلاقة بين الفكر والواقع. والتي يقصد بها تحديد الصلة بين الوقائع والافكار او بين الاحداث والمفاهيم والصور المختلفة التي يمكن ان تأخذها تلك العلاقة, وايهما يسبق الآخر, الواقع ام الفكر, ودلالة ذيوع صورة من صور هذه العلاقة في مجتمع ما, وفي فترة زمنية محددة ثم كيف تتغير هذه الصورة من مرحلة لاخرى؟ والحقيقة, ان العلاقة بين الفكر والواقع هي علاقة (معقدة) و(مترابطة) و(مركبة) . ومراجعة التاريخ الانساني تكشف لنا عن وجود عدة صور لتلك العلاقة. الصورة الاولى وهي الاكثر شيوعا في بلادنا العربية هي ان الفكر الانساني هو بمثابة انعكاس للواقع.
وان المفكر او الباحث عادة ما يتناول القضايا التي يطرحها الواقع التاريخي الذي يعيش فيه ويترتب على ذلك ان الفكر الانسان هو تعامل نظري مع الوقائع والتطورات التاريخية والاجتماعية سعيا لفهمها وتحليلها, وتفسيرها.
ووفقا لهذه النظرة برز المجال المعرفي الخاص بعلم اجتماع المعرفة وهو المجال الذي يهتم بدراسة الجذور الاجتماعية والتاريخية للفكر, ودراسة الفكر الانساني: السياسي والاجتماعي والاقتصادي في اطار سياقه الذي نشأ فيه. فتتم دراسة العوامل التي ادت بمفكر ما, مثل ادم سميث او ماركس, الى تبني اتجاه فكري بعينه والاسباب الذاتية والموضوعية التي تفسر ذلك. كما تتم دراسة الاسباب الاجتماعية لانتشار افكار, او ايديولوجيات معينة في فترة دون اخرى. ويتبنى انصار هذا الاتجاه الرأي بأنه سواء على المستوى الفردي (اي على مستوى المفكر او الفيلسوف), او على المستوى الجماعي (اي عملية ذيوع الافكار, ورواجها, او انحسارها),
فان الفكر الانساني لا يمكن النظر اليه بمعزل عن الظروف الاجتماعية وان رواج فكرة او نظرية ما في وقت معين لا يمكن تفسيره بـ (السلامة النظرية) للفكرة وحسب وانما ايضا بـ (الاحتياج الاجتماعي لها) . الصورة الثانية للعلاقة هي النظر الى الفكر باعتباره قرون استشعار مستقبلية, واداة لطرح رؤى وتصورات واستراتيجيات يسترشد بها المجتمع في تعامله مع المستقبل. وهذه الصورة تجد بذورها لدى كثير من المفكرين الطوباويين او الخياليين الذين قدموا رؤى (حالمة) من امثال: توماس مور, وكامبانيلا, بل يمكن ارجاع هذا النمط الى الفيلسوف الاغريقي افلاطون في كتابه عن الجمهورية الذي قدم فيه صورة لنظام الحكم المثالي. وفي الحقبتين الاخيرتين ازداد الاهتمام بمجال الدراسات المستقبلية وهو المجال الذي يقوم على استشراف المسارات المحتملة لتطور مجتمع ما او مجموعة من المجتمعات. وفي اطار هذه الصورة
فان الفكر لا يكون مجرد تعامل مع القضايا التي يطرحها المجتمع او التي تكون مثارة في الواقع, بل يكون استشراقا للمستقبل, وتصورا لأمور قد لا يكون لها أساس في الواقع المعاش. والصورة الثالثة للعلاقة بين الفكر والواقع, هي مزيج من الصورتين السابقتين. فالعلاقة ليست انعكاسا للواقع او تجاوزا كاملا له. وفي حالات كثيرة يتمكن المفكر من الجمع بين الامرين فيعكس قضية, او مشكلة اجتماعية معينة ثم ينطلق بها الى افاق تطوراتها المستقبلية. وفي حالات اخرى يفتش المفكر عن البذور الجنينية للتغيير في الواقع, والتي قد لا تكون واضحة للكافة, ثم يأخذ في تسليط الاضواء عليها. ويثار في المجال, قضية ايهما يسبق الآخر, الواقع ام الفكر, وعموما, وباستثناء هذا النفر من المفكرين المستقبليين, الذين يشخصون بأبصارهم وبعقولهم صوب المستقبل, فان الفكر عادة ما يكون انعكاسا لواقع ولقضايا قائمة. فالفكر يأخذ وقتا اطول لكي يتبلور ويتخذ اشكالا واضحة. والمنظومات والابنية الفكرية اقل سرعة في التغيير من الوقائع الاجتماعية. لذلك توجد دوما فترة انقطاع زمني او (فجوة) ,
بين تغير الوقائع وتغير الأفكار, وكثيرا ما تستمر أفكار, وأنماط فكرية, في التداول, بعد أن تكون الأسباب الموضوعية, والظروف التاريخية, التي ارتبطت بها قد انتهت. ومناسبة هذا التحليل, هي أهمية أن يتنبه الفكر العربي عموما إلى ضرورة التركيز على النظرة النقدية للأمور, وعلى اعادة النظر في عديد من المفاهيم التي أفرزتها حقب تاريخية سابقة. فالفكرة السليمة, والتي تكون مناسبة اليوم لم تكن بالضرورة كذلك بالأمس, ولن تكون كذلك بالضرورة في المستقبل. وعبر تاريخ الأفكار, فإنه في مراحل التطور الاجتماعي السريع, يحدث تفاعل فكري, تنشأ عنه أفكار جديدة, وتتوارى أفكار أخرى, ويعاد تعريف محتوى أفكار ثالثة, وهذا ينطبق أيضا على مفردات اللغة والكلمات.
ونحن نحتاج إلى الشعور بأهمية هذه الحركة الفكرية, والنظرة النقدية, خاصة مع تسارع وتيرة حركة الأحداث في العالم, وفي المنطقة من حولنا. ففي السنوات القليلة الأخيرة, شهد العالم من الأحداث والتطورات ما لم يحدث في حقب كاملة في الماضي. فعلى المستوى العالمي, من كان يصدق امكانية انهيار الاتحاد السوفييتي, أو هدم سور برلين وتحقيق الوحدة الألمانية, أو التغير في دول شرق أوروبا؟!! ومن كان يتوقع أن تحدث كل هذه التطورات المتسارعة في مجال العلم والتكنولوجيا, وفي مجال المعلومات والاتصالات, وفي مجال التداخل والاعتماد المتبادل بين الاقتصادات الصناعية المتقدمة؟!! وهذه التطورات تطرح تحديات فكرية عميقة في كافة مناحي الحياة. وبايجاز, هناك تحولات عميقة في بنية المجتمع, والعالم من حولنا, تحولات سياسية, وتكنولوجية, واقتصادية, تتطلب تحولات في الفكر, والثقافة, وفي أنماط التفكير, والتحليل. وبدون ذلك, فسوف نظل نلهث وراء واقع يتغير بسرعة, ويفاجئنا بين الحين والآخر.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان