لا أعتقد ـ وإن كنت أتمنى عكس ذلك ـ أن تنجح جولة الرئيس الكونغولى ـ فيليكس تشيسيكيدى، المكوكية التى يقوم بها الآن والتى بدأت بزيارة الخرطوم صباح أمس ثم القاهرة مساء نفس اليوم فى الوصول إلى حل بخصوص أزمة السد الإثيوبى المتصاعدة منذ عشر سنوات حتي الآن بسبب فقدان الشريك الإثيوبى الجاد الذى يملك الإرادة السياسية اللازمة للوصول إلى حل مقبول مع دولتى المصب (مصر والسودان).
ليست المشكلة فى مصر والسودان فكلتهما تسعيان بإخلاص من أجل التوصل إلى حل يضمن حق إثيوبيا فى التنمية، وفى الوقت ذاته يضمن الحصص المائية المقررة لدولتى المصب (مصر والسودان).
إثيوبيا ليست فى حاجة إلى مياه إضافية فلديها ما يكفى من المياه، وهى الأكثر استغلالاً لمياه النيل، رغم أنها الأكثر وفرة فى مصادر المياه، ولكن المشكلة تتعلق بالأزمات الداخلية المتفجرة فى إثيوبيا، والتى انفجرت فى إقليم تيجراي، وتهدد بتصاعد النزاعات الانفصالية، والحروب الأهلية فى باقى الأقاليم لتتحول إثيوبيا إلى ثمانى دول على الأقل نتيجة العلاقات المتوترة بين الحكومة الفيدرالية، والأقليات العرقية، فى ظل عدم المساواة، وانتهاج سياسة الإقصاء والاضطهاد مما جعل إثيوبيا أشبه بـ “كرة ملتهبة” توشك على الانفجار فى أى لحظة.
فى إثيوبيا عشرات المجموعات العرقية أشهرها “الأورمو، والأمهرة وتيجراي، والصومالية، وعفار، والأعراس” وغيرهم من المجموعات العرقية، وقد اعترف الدستور الأثيوبى بذلك الاختلاف والتباين العرقى، وجعل من إثيوبيا جمهورية فيدرالية، وترك لكل إقيم خصوصياته وتشريعاته، لكن السلطة المركزية فى أديس أبابا، انتهجت سياسة إشعال الفتن الداخلية، وطمس الهوية.
تلك الممارسات أدت إلى الإنفجار الكبير فى إقليم تيجراي، والذى نتج عنه سقوط آلاف الضحايا والمصابين، ووقوع عمليات إبادة جماعية، وتطهير عرقي، وعنف جنسى، ودخول قوات خارجية هى القوات الإرتيرية على خط الصراع لمساندة رئيس الوزراء الحالى آبى أحمد ضد شعب التيجراي.
انتفاضة العالم ضد ما حدث من فظائع فى إقليم التيجراي جعل آبى أحمد يتراجع عن “عجرفته” ويعتذر عن المجازر العرقية فى محاولة مؤقتة منه لتمرير عاصفة الغضب العالمية ضده.
بدلا من الحلول الموضوعية للأزمات الداخلية المشتعلة فى الأقاليم الإثيوبية يقوم رئيس الوزراء آبى أحمد بإستخدام ورقة السد للشحن الداخلى، واختراع عدو خارجى فى محاولة “متهافتة” منه لتهدئة الوضع الداخلى، وتحويل أنظار المواطن الاثيوبى عن مشاكله الحقيقية، إشاعة إلى فكرة العدو الخارجى المناهض للمشروع القومى للسد الإثيوبى لرأب الصدع فى الجبهة الداخلية المنهارة.
للأسف الشديد استغل آبى أحمد صديقه عمر البشير, الرئيس السودانى المخلوع, أسوأ استغلال ممكن, لتصدير صورة كاذبة عن عدم أضرار السد الإثيوبى بالسودان, رغم أن السودان هى الأكثر تضررا كما حدث فى الملء الأول للسد فى العام الماضى، وكما هو متوقع حدوثه لو أصرت إثيوبيا على السير فى الاتجاه المعاكس، وقامت بالملء الثانى بشكل أحادى خلال الفترة المقبلة.
بعد كشف الأكاذيب الإثيوبية، وسقوط نظام البشير سقطت الأقنعة الكاذبة، وظهرت مخاطر السد الإثيوبى واضحة جلية خلال الملء الأول للسد على الشعب السودانى الشقيق بعد أن تضرر من الجفاف، وتأثرت قدرات سد الروصيرص” على توليد الكهرباء وهو الوضع المرشح للتكرار بقوة أكبر فى حالة الملء الثانى للسد الاثيوبى دون اتفاق مع دولتى المصب.
الأضرار التى لحقت بالسودان فى الملء الأول جعلتها أكثر إصرارًا وقوة على ضرورة إلزام إثيوبيا باتفاق ثلاثى ملزم حول السد، ورفض اتخاذ خطوات إحادية من الجانب الإثيوبى.
بنفس عقلية الهروب من مواجهة المشكلات الداخلية فى الأقاليم الإثيوبية “المتفجرة” يتعامل آبى أحمد رئيس الوزراء الإثيوبى مع السودان الشقيق بعدما أعلنت بصراحة وبكل وضوح رفضها لنهج “المراوغة” و”الأكاذيب” الإثيوبية، فكان اقتراحها بضرورة توسيع المفاوضات ليضم رباعية دولية “الاتحاد الإفريقى”، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبى، والولايات المتحدة، من أجل “تسريع” وتيرة حل الأزمة، والمساعدة فى التوصل إلى اتفاق قانونى ملزم وعادل للأطراف الثلاثة (مصر والسودان وإثيوبيا).
أيدت مصر بكل قوة الموقف السودانى، لكن إثيوبيا لجأت مرة أخرى إلى نهجها المعتاد داخليا وخارجيا، وهو نشر الأكاذيب، وافتعال أزمات أخرى فرعية فى محاولة فاشلة منها للاتبعاد عن الأزمة الأصلية.
هذه المرة حركت إثيوبيا قواتها المسلحة لتحتل مساحات كبيرة من الأراضى السودانية، وتقيم عليها مستعمرات إثيوبية، وحينما قامت القوات السودانية باستعادة أراضيها المحتلة قامت بترويج الأكاذيب والشائعات ضد السودان باعتباره عدوانا خارجيا من أجل لم شمل الداخل المفتت، وتصدير صورة خاطئة للمجتمع الدولى، واستخدام الورقة السودانية فى الشحن الداخلى.
ولأن الأكاذيب لا تصمد فقد روجت إثيوبيا لاتفاقية الحدود وتقاسم المياه الموقعة عام 1902 على أنها اتفاقيات استعمارية برغم أن إثيوبيا لم تكن محتلة فى ذلك التوقيت.
“الهذيان” و”الأكاذيب” الإثيوبية وضع إثيوبيا فى موقف صعب حينما لوحت السودان بإعادة النظر فى “سيادة” إثيوبيا على إقليم “بنى شنقول” الذى يقام عليه السد الإثيوبى إذا استمرت فى نهج التنصل من الاتفاقيات الدولية، المتعلقة بمياه النيل وترسيم الحدود بين البلدين.
فى الأسبوع الماضى أصدرت وزارة الخارجية السودانية بيانًا استنكرت فيه تصريحات مسئولين إثيوبيين أفادوا بأن السودان يعمل على إلزام بلادهم بـ”اتفاقيات استعمارية” فى إشارة إلى اتفاقيتى الحدود والمياه.
اعتبرت الخارجية السودانية هذه التصريحات “لا يعتد بها” باعتبار أن إثيوبيا كانت عند التوقيع دولة مستقلة، وقالت إن التنصل من تلك الاتفاقيات يعنى أيضا أن تتخلى إثيوبيا عن سيادتها على إقليم بنى شنقول موقع سد النهضة الذى انتقل من السيادة السودانية إلى إثيوبيا بموجب تلك الاتفاقيات التى تسميها إثيوبيا “استعمارية” وترفضها وتتنصل منها،
تاريخيا يعتبر إقليم بنى شنقول المقام عليه السد هو إقليم سودانى منذ عهد الدولة المهدية فى القرن التاسع عشر حتى سقوطها عام 1898 وهو اقليم يسكنه أغلبية عربية مسلمة ويتحدثون اللغة العربية بطلاقة وظل كذلك حتى توقيع معاهدة ترسيم الحدود عام 1902 التى احتفظت بموجبها إثيوبيا بالإقليم وانسحبت من بقية المناطق.
بيان الخارجية السودانية فضح النهج الإثيوبى المزمن بتعبئة الرأى العام الداخلى لأسباب سياسية داخلية، ووصف ذلك بالإجراء الذى يتسم بعدم المسئولية، والذى من شأنه أن يسمم مناخ العلاقات الدولية، ويجعله عرضة للإرادات المنفردة، ويشيع الفوضى ويقوض أسس حسن الجوار التى تأسست عليها العلاقات السودانية ـ الإثيوبية.
الموقف المصري يكاد يكون “متطابقا” مع الموقف السودانى، ولدى مصر والسودان إرادة سياسية كاملة للتوصل إلى اتفاق قانونى ملزم للدول الثلاث يحقق مصالحهم المشتركة دون أضرار بأى طرف كما أكد إعلان المبادئ بين الدول الثلاث عام 2015.
من الضرورى أن يتفهم المجتمع الدولى الآن أن الموقف الإثيوبى المتعنت هو الذى يهدد بتفجير أزمة السد وخروجها عن المسار الطبيعى المألوف، وهو ما أشار إليه السفير المصرى فى واشنطن معتز زهران فى ندوة بكلية الحرب الوطنية الأمريكية مؤخراً حينما أكد أن قضة مياه النيل فى كل من مصر والسودان أخطر من أن تترك أسيرة للوضع الداخلى فى إثيوبيا، لما لها من تبعات جسيمة على شعوب المنطقة موضحاً، أن الإدارات الاثيوبية المتعاقبة هى التى دأبت وبشكل متعمد على إتباع سياسات تقوم على تأجيج الرأى العام الإثيوبى لاحتواء التوترات المزمنة هناك.
أعتقد أنه بات مناسباً الآن أن يكون للاتحاد الإفريقى موقف حاسم من “الغطرسة” الإثيوبية، وأن يتخذ من الإجراءات ما يلزمها بضرورة التوصل إلى الاتفاق الملزم أو على الأقل “يفضح” أكاذيبها أمام الرأى العام الإفريقى ويقوم بتحميلها مسئولية فشل الإتحاد الإفريقى فى التوصل إلى تسوية سلمية، وقانونية لتلك الأزمة المهددة بالانفجار فى أى لحظة إذا استمر ذلك النهج الإثيوبى إلى ما لانهاية.