بلغت الثورة التكنولوجيّة ذروتها مع دخول العالم الرقمي إلى كل مناح الحياة اليوميّة، منها ما له آثار إيجابية ومنها ما له آثار سلبية، ومنها ما له أثر مباشر على الأفراد وما له أثر يصيب الدول ذات السيادة. ونحن نشهد الآن استخدامات للشبكة العنكبوتية كوسيط يتم من خلاله تنفيذ هجمات سيبرانية غير مشروعة دولياً باعتبار أنها تؤثر في سيادة الدول المستهدفة.
وعليه، يثير سؤالاً متعلقاً بالإمكانات المتاحة للدول لأن ترد على تلك الأنشطة حال حصولها، وتكون فيه ضحيّة لها، بعيداً عن استخدامها لحقّها المتمثّـل بالدفاع الشرعي عن نفسها المُشار إليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
فهذا الحق، وإن كان يعكس عرفًا من أعراف القانون الدولي المستقرّة، إلّا أنّه في اللجوء إليه مباشرة تجاهلًا كبيراً لإمكانات أخرى يوفّرها القانون الدولي، متمثّلة بالحق في اتخاذ تدابير مضادّة وردت الإشارة إليها صراحةً في المادة 22 من مشروع المواد المتعلقة بمسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دوليًا.
المؤكد ابتداء أن القانون الدولي يكرّس حق الدفاع الشرعي في العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية أبرزها ميثاق الأمم المتحدة الذى يخوّل في مادته 51 للدول الأعضاء اللجوء لحق الدفاع الشرعي عن النفس في مواجهة عدوان تتعرض له إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي.
مقطع الخلاف القانوني ينصب على تحديد مفهوم العدوان الذى تتعرض له الدولة وما إذا كان ينحصر في العدوان المسلح مسايرةً لنص الميثاق أم يكفى أن يضر بوجود وكيان دولة أخرى أياً كانت صورة هذا العدوان؟
والدفاع عن النفس ليس الوسيلة القانونية الوحيدة المتاحة للدولة المهدّدة بالإضرار أو خطر الإضرار. هناك أيضاً ما تستند إليه الدولة في إطار نظرية الضرورة. وإذا كان الدفاع الشرعي يفترض تعرض الدولة لاعتداء فحالة الضرورة تتطلب فقط نشوء خطر جسيم يهدّد الدولة في كيانها أو مصالحها الجوهرية وذلك بغض النظر عن مصدر الخطر أو مدى مشروعيته. فالدفاع الشرعي هو لدرء عدوان غير مشروع أما الضرورة فهي لمواجهة خطر جسيم ولو كان مشروعاً.
يترتب على ذلك أن إقامة دولة لسد على نهر مشترك عابر للحدود بالمخالفة لمبدأ الاستخدام المعقول والمنصف لمياه النهر الدولي مع دول المصب فهذا سلوك وبفرض التسليم جدلاً بمشروعيته لا يمنع الدولة المتضررة من اللجوء للقوة لدفع هذا الخطر الجسيم. والواقع أن محكمة العدل الدولية لم ترفض فكرة الضرورة كمبدأ لكنها قرنت قبولها بأن تكون استثنائية ومستوفية لشروط معينة أبرزها كون القوة التي استخدمتها الدولة التي تلجأ للضرورة هي السبيل الوحيد لصون مصلحة أساسية لها من خطر جسيم ووشيك يهددها.
المزاعم الإثيوبية بأن نهر النيل الأزرق ملك لها أباطيل أسدلت عليها ستائر النسيان منذ ما يزيد على قرن من الزمان. ولا لوجود لها في القانون الدولي العام أو القانون الدولي للانتفاع بالمجاري المائية الدولية في غير استخدامات الملاحة. وعلى إثيوبيا أن تعلم أن حقها في التنمية لا يتخطى ولا يتعدى حق الشعوب الأخرى في الحياة.
من هذه الإجراءات تعليق المصادقة على الاتفاقات الدولية التي تكون إثيوبيا طرفا فيها، وتعليق الاستثمارات الضخمة في إثيوبيا، وتخفيض العلاقات الدبلوماسية والقنصلية، وحظر التعامل مع الخطوط الجوية الإثيوبية، الناقل الرسمي للاتحاد الإفريقي ودول القارة من الشرق إلى الغرب. ويمكن أيضًا إلغاء اعتبار الأفضلية لإثيوبيا في معاهدات واتفاقات تجارية من جانب المنظمات الدولية والدول، وحظر استقبال العمالة الإثيوبية.
كل هذه تسمى في القانون الدولي تدابير مضادة وهى إجراءات تتخذها الدول والمنظمات الدولية تجاه الدول التي انتهكت قواعد ومبادئ القانون الدولي وألحقت الضرر الجسيم بالدول الأخرى.
وعلى مصر والسودان أن يبذلا جهدا دبلوماسيا ماراثونيا مع المنظمات والدول لاتخاذ التدابير الردعية ضد إثيوبيا، وهو أمر صعب دون إغفال ضيق الوقت.
كما أن هناك نماذج طبق فيها المجتمع الدولي جزاءات وعقوبات ضد سوريا وليبيا وبوروندي والعراق والبرتغال وجنوب أفريقيا (وقت العنصرية) وزيمبابوى. أن مصر ألقت بالكرة في ملعب مجلس الأمن، الذي يمكنه إجراء مشاورات مع الدول الثلاث،
وحثها على الدخول في مفاوضات جادة، أو أن يحيل الأمر إلى محكمة العدل الدولية لطلب الفتوى فيما إذا كانت إثيوبيا انتهكت القانون الدولي أم لا، غير أن هذه الفتوى لها حجية سياسية وليست قانونية. ومع ذلك يمكن لمصر أن تستند إليها إذا ما أقبلت على تحركات أخرى قسرية في المستقبل.
إن إثيوبيا تتجاهل ذلك بشكل كامل وتتجاهل المبدأ الأساس في القانون الدولي بشأن عدم إلحاق الضرر بالآخرين، وترفض تقديم أي ضمانات أو التزامات ذات صفة قانونية، بزعم العمل بمبدأ السيادة على أراضيها ومنشآتها وهو كلام غير قانوني ومغلوط؛ لأن السيادة على الأنهار طبقاً للقانون الدولي، هي سيادة منقوصة ومشروطة بعدم إلحاق الضرر.
لقد شَدَدت لجنة القانون الدولي أثناء مناقشة مشروع مواد قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية لعام 1997م على عدم إغفال اشتراط الإخطار في مواد الاتفاقية المذكورة، من منطلق أن من شأن الإخطار أن يعزز الحد الأدنى من التعاون الضروري بين دول المجاري المائية الدولية في استخدامها المفيد لمواردها المائية المشتركة.
بهذا، شكّل الإخطار من وجهة نظر لجنة القانون الدولي التي وضعت نصوص هذه الاتفاقية الخطوة الإجرائية المبدئية التي لا غنى عنها للتعايش بين دول الشبكة، التي تخطط فيها مشاريع وبرامج إنمائية على المجرى المائي الدولي، ذلك أن واجب الامتناع عن التسبب في ضرر ملموس فيما إذا روعي بحذر،
قد يؤدي إلى إبطاء الأشغال الهندسية أو الأنشطة المتصلة بالموارد المائية، هذا إذا لم يؤد إلى شَلّها، ولا يمكن تلافي هذا الأمر إلا بالاتصال بين دول المجري المائي الدولي، خاصة في الحالات التي قد يكون فيها للأشغال والأنشطة أثر هام خارج حدود الدولة.
و بهذا، تَبرز أهمية الإخطار كوسيلة لتحقيق التعاون بين دول الشبكة، ولتفادي النزاعات الباهظة الكلفة وغير الضرورية من خلال طريقة بسيطة تشكل حداً أدنى من الواجبات.
تبرز أهمية الإخطار كآلية ضرورية ومبدئية لتحقيق قدر أكبر من الألفة والتقارب بين الدول المشتركة في مورد طبيعي دولي، بحسب رأي للبنك الدولي بصفته مؤسسة تعاونية دولية، لأن الإخطار يجسد مبدأ حسن الجوار بين هذه الدول، فاشترط البنك الدولي قبل الشروع في تجهيز معاملات المشاريع الهندسية على المجاري المائية الدولية، إخطار الدول المشاطئة بالمشروع المزمع إقامته.
إن الأمن المائي لمصر هو العمود الفقري لأمنها القومي بمفهومه الشامل، واستقراره كان وسيظل بالنسبة لها البقاء، وتهديده وانعدامه يعني الفناء، أي أن هذه القضية من منظور الحاضر والمستقبل هي مسألة حياة أو موت. ومن هذه الزاوية فقط يتعين التعامل مع الأخطار المائية سواء الحالية والمستقبلية المحدقة بموارد مصر من مياه النيل وتداعياتها بدءًا من انطلاقه من منابعه الإثيوبية والاستوائية، إلى حين وصولها إلى أسوان، وما يعترضها حاليًا أو مستقبلاً من سدود وإنشاءات هندسية، تقام على المجرى الرئيسي للنهر وروافده، أو تحديات لحقوق مصر في هذا الشأن.
ويمكن إيضاح تفصيلات ذلك على الوجه التالي:
إن مصر هي الدولة الأكثر اعتمادًا على مياه النيل كمورد مائي شبه وحيد لها (97%)، بين دول حوض النيل الأحد عشر جميعًا وهي: إثيوبيا، إريتريا، السودان، كينيا، تنزانيا، أوغندا، جنوب السودان، الكونغو الديمقراطية، بوروندي، رواند، مصر.
تأتى مصر في مقدمة دول الحوض التي تعاني من الفقر المائي بصورة مستمرة ومتصاعدة، حيث يبلغ النصيب السنوي الحالي للفرد فيها من المياه (620 متر مكعب). ويقل الرقم عن الحد الأدنى المقرر دوليًا للفقر المائي وهو (1000 متر مكعب) سنويًا، بل إنه مستمر في الهبوط، حيث كان يبلغ حوالي (2100 متر مكعب) عام 1959 وقت توقيع اتفاقية مياه النيل مع السودان (55.5 مليار متر مكعب سنويًا)، وكان تعداد سكان مصر – حينئذ 27 مليون نسمة – وهو يتجاوز الآن 90 مليون نسمة.
إن حقوق مصر المائية في نهر النيل، تستند إلى أسس قانونية ترتكز على اتفاقيات دولية ثنائية أو متعددة الأطراف، تمتد عبر أكثر من مائة عام، منها ما هو مع دول استعمارية، ومنها ما هو بعد الاستقلال، وهي ملزمة لدول الحوض بعد استقلالها طبقًا لقواعد التوارث الدولي (State succession)، فضلاً عن قواعد القانون الدولي للأنهار الدولية، من اتفاقيات ومبادئ وأعراف.
هناك حاجة ملحة إلى تطبيق استراتيجية شاملة محدثة أو مبادئ وخطط طارئة لإدارة علاقات مصر بدول حوض النيل، طبقًا للتصورات المختلفة أو الظروف المستجدة أو الأحداث الجارية، وذلك لكي تكون هناك جسور دائمة ومصالح مستمرة ومتنامية مع هذه الدول، غير قابلة للانقطاع أو التقلب الشديد.
وإذ لم يعد مناسبًا الارتكان على الوجود المصري السياسي والريادي السابق في أفريقيا، والذى لم يستثمر بالقدر الكافي مع دول الحوض بعد استقلالها، كما لا يُعد منطقيًا الادعاء بوجود مؤامرات دولية خارجية مثل الوجود الإسرائيلي المتجذِّر والمتنوِّع في هذه الدول، لأن ذلك يفترض أن يكون حافزًا أقوى لوجود مصري متفوق، ومبررًا لاستراتيجيات مضادة، أو التحدث عن المساعدات والمنح المقدمة من مصر لدول الحوض في مجالات عديدة، لأنها تظل متواضعة وإن كانت في حدود ماتسمح به الموارد المصرية.
ومما لاشك فيه أن تبني مصر سياسة خارجية فعالة تجاه أفريقيا عامة، ودول حوض النيل بوجه خاص، سيكون لها مردود إيجابي كبير على مواقف هذه الدول تجاه الحقوق المشروعة لمصر في مياه النيل.
هناك أهمية استراتيجية للاحتفاظ بعلاقات وثيقة بين مصر والسودان، وذلك بما يُهيئ مناخًا إيجابيًا لإدارة المفاوضات والأزمات المرتبطة بملف مياه النيل مع دول الحوض، سواء تعلق الأمر بمبادرة حوض النيل أو الاتفاقية الإطارية لتعاون دول الحوض (اتفاقية عنتيبي 14/5/2010) أو أزمة سد النهضة.
رغم أن اتفاقية 1959 تفرض على طرفيها تنسيق واتخاذ مواقف موحدة إزاء قضايا مياه النيل، إلا أنه يلاحظ تباعد الموقف السوداني بالنسبة لقضايا مياه النيل، وباتت الخرطوم تتخذ مواقف أقرب إلى الموقف الإثيوبي، بل وداعمة لهذا الموقف. ولا يغير من ذلك توقيع السودان على إعلان المبادئ في الخرطوم (23/3/2015).
مع الإدراك بأن هناك اعتبارات سياسية وقضايا مصرية – سودانية أخرى وراء الموقف السوداني، وهو ما يستوجب التعامل مع تلك القضايا واحتوائها بما يكفل موقفًا مصريًا – سودانيًا موحدًا مطلوبًا في كل قضايا مياه النيل.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان