شاءت مصادفة أن أجلس مع عدد كبير من طلاب إحدى كليات الآداب، لا يتبقى على تخرجهم إلا بضعة أشهر، حوارات مفتوحة، إنسانية وفكرية وسياسية دون سقف لحرية التعبير، بما فيها قضايا تبدو للعقول المغلقة من الممنوعات أو المحظورات، وبدأت الحوار بسؤال استكشافي: ما هو الفارق فى تصوركم بين بلادنا والبلاد المتقدمة اقتصاديا وعلميا وتعيش شعوبها حالة من «الجودة» فى كل جنبات الحياة؟، ما الذى يميز هؤلاء الأجانب شرقا وغربا وأتاح لهم هذا القدر من التفوق العلمى والعملى والمعرفي؟
وتوالت الإجابات عن احترام العمل والوقت والجدية والانضباط وتقدير القدرات الفردية وغياب المحسوبية والواسطة وصرامة تنفيذ القانون..الخ.
فسألتهم: ولماذا لا نفعل نحن ذلك أيضا؟
قالوا: تعليمنا وتربيتنا.
قلت: لا أصدق..هل أهلنا يربوننا ومدارسنا تُعلمنا ألا نكون جادين وملتزمين ومنضبطين، هل سمعنا عن شركة أو مصنع أو مؤسسة أو هيئة تغرس الإهمال والتواكل فى نفوس العاملين فيها؟ ظهرت الحيرة على وجوههم وبدا السبب الذى فسروا به الفارق بين السلوكيات هنا وهناك غير مكتمل.
قلت: الجدية وكل التصرفات التى وصفتم بها أهل الدول المتقدمة هى أفرع من كيان عملاق يمسك أعمدة المجتمع، الكيان هو منظومة القيم الحاكمة لحياتهم، ومنظومة القيم يصنعها النظام العام الذى يدير حياة المجتمع من أتفه التصرفات إلى أعظمها شأنا، والنظام العام هو القواعد والأساليب المستخدمة فى تنظيم أنشطة الجماعة فى كل مناحى الحياة تحت سلطة القانون، هدفها حماية المجتمع وضمان استمراره واستقراره، ويخرج عنه النظام السياسى والنظام الاقتصادى والنظام الاجتماعى..الخ، وهذه الأنظمة بدورها تعيد تشكيل النظام العام ومنظومة قيمه، كل فترة زمنية تطول أو تقصر. فإذا كان النظام العام يدير موارد المجتمع بشرا وثروات بكفاءة، فالمجتمع قادر على التقدم والتطور دون توقف، وينتج دوما منظومة القيم التى تمكنه من توفير حماية «جيدة» لأفراده، سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية ورياضية وفنية..الخ. بدا الكلام غريبا وغير مفهوم لأغلبهم، كأننى انتقلت بهم من كوكب يعيشون عليه إلى كوكب مجهول فى مجرة كونية بعيدة.
قال أحدهم: هل يمكن أن تضرب لنا مثلا بما تقصده؟
قلت: النظام العام يدير كل شىء فى حياتنا، الطريقة التى نفتح بها محل بقالة فى زقاق أو سوبر ماركت كبير على طريق رئيسى، أو نرخص بها سيارة أو عقارا سكنيا أو فندقا أو شركة أو جمعية خيرية، الطريقة التى نتعلم بها من الحضانة إلى الجامعة: المدرسة والمنهج والمدرسين والامتحانات والإدارة ودور أولياء الأمور، تنظيم الشوارع والأرصفة والمركبات والمارة، الطريقة التى نزرع بها أرضنا ونرويها، الطريقة التى ننتج بها سلعنا وخدماتنا وتنظيم أسواقها من مصدرها إلى المستهلك الأخير، إجراءات التقاضى وتنفيذ الأحكام،الطريقة التى يعمل بها جهاز الشرطة داخليا أو مع الجمهور، أستاذالجامعة وترقياته وأبحاثه، الطريقة التى تعمل بهاالمراكز العلمية، الطريقة التى ندير بها الرياضة على مستوى الهواة أو المحترفين فى كل الألعاب، الطريقة التى ننظف بها بيوتنا وشوارعنا ومؤسساتنا والتخلص من النفايات، الطريقة التى تعمل بها المستشفيات والأطباء ومكاتب الهندسة والمحاماة والصحف والفضائيات..كل شىء يحدث فى حياتنا من أصغرها إلى أكبرها، ويؤثر فى أى إنسان أو حيوان أو جماد بأى شكل من الأشكال. يعنى إذا كان عندنا أزمة فى التعليم، فهذا معناه أن القواعد التى ندير بها عملية التعليم بكل عناصرها من قوانين وأساليب فيها خلل ما، وإذا كان عندنا فوضى فى الشوارع يبقى القواعد التى ندير بها حركة الشارع بشرا ومركبات وكل ما يتعلق به لا تعمل بكفاءة، إذا كانت عندنا أزمة فى الرياضة فهذا معناه أن القواعد التى تدير الأندية والاتحادات والاستادات والجمهور بها خلل ما، وإذا كان عندنا أزمة فى مخالفات البناء فهذا راجع إلى عيوب ظاهرة أو خفية فى القواعد التى ندير بها الأحياء من أول إصدار التراخيص ومتابعتها إلى إدخال المرافق العامة، وهكذا فى كل مناحى الحياة.
ران صمت هائل عليهم، لم أحاول أن أقطعه، وتركتهم يقلبون ما قيل فى أدمغتهم.
قال أحدهم: إذن نحن فى حاجة إلى مراجعة القواعد والأساليب التى تدير حياتنا كلها.
قلت: أى مجتمع عفى يصنع ذلك طول الوقت، لأن حاجات البشر تتوسع ومطالبهم تزداد، فيعدل من نظامه العام لترتفع طاقته وكفاءته على إنتاج مزيد من السلع والخدمات والفرص.
سأل: وهل نحن نفعل ذلك؟
قلت: بالتأكيد نفعل لكن ببطء وفى حدود لم تسمح لنا بتجاوز الفجوة بيننا وبين العالم المتقدم، والمسألة ليست فقرا وغنى، فاليابان مثلا بمقاييس الثروة الطبيعية أفقر من روسيا، بينما سكان روسيا أقل من اليابانيين فى جودة الحياة.
سأل: وماذا نفعل؟
قلت: أهم عمود يستند إليه النظام فى أداء وظيفته هو العقل الجمعى للمجتمع، أى الطريقة التى يعمل بها عقل الأفراد فى اتخاذ قراراتهم، سواء كانت شخصية أو عامة، العقل هو صانع التقدم، عقل معتاد على التفكير العلمى فى التعامل مع حياته فى كل جنباتها، لا تسيطر عليه غيبيات ولا خرافات ولا أوهام ولا أساطير ولا مرويات شعبية ولا دروشة ولا فهلوة ، ودون هذا العقل سيظل هذا المجتمع يطارد مشكلاته، يخفف منها لكن لا يحلها.
سأل: عندنا عشرات الملايين فى الجامعات والمدارس وخريجون بعشرات الملايين..فماذا عنا؟
قلت: العدد الأكبر منهم مازال واقعا فى قبضة الغيبيات والخرافات والدروشة، والعدد الأقل يلزم نفسه بالمنهج العلمى تفكيرا وعملا، لكنه غير قادر على صناعة تيار عام يشد المجتمع كله إلى الأمام، بسبب عدم كفاءة نظام التعليم، وضعف الثقافة والمعرفة، والمعرفة هى أساس بناء العقل السليم. هذا هو المانع الذى لم نعبره بعد.