من المفارقات المدهشة ان تأتي احتفالات العالم بهجرة المصطفي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة الى المدينة المنورة ونحن نتعرض للفحات قيظ وحر شديدين تحت شمس يوليو المحرقة والممتدة الى اغسطس ومابعده بقليل..حرارة يعجز كثيرون عن تحملها رغم ما اتاحته المدنية الحديثة من وسائل ضد الحر والشرد وما يعين على اتقاء ارتفاع درجات الحرارة والعيش في ظلال برودة تكييفات متعددة الاشكال والالوان بدءا من التكييفات المركزية وحتى الصحراوي منها والثابت والمتنقل وحتى في وسائل التنقل والترحال.
لا اظن ان العقل البشري حتى الان قد استوعب درس التوقيت للهجرة النبوية يوم ذاك في حر يوليو القائظ وتحت لفح الصحراء المهلكة القاحلة..النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه وراحلتان يقطعان بها هذا الطريق الطويل وتحت لفح هجير صحراء تكاد تتميز قيظا وغيظا لما يتعرض الله النبي المرسل وهو في بداية دعوته وفي اول طريقه لتنفيذ الامرالالهي فاصدع بما تؤمر واعرض عن الجاهلين..عن المشركين.
لم تكن الهجرة النبوية الا نقطة الانطلاق المركزية لمنابع الانوار التى تضيء العالم اجمع وتأخذ بيد الانسانية الى حيث يجب ان تكون وكما اراد الخالق العظيم..لذا كانت الهجرة هي اللحظة والبرهة الخالدة التى اعتدل بها وعندها ميزان التاريخ الى وجهته الجديدة لتسمو البشرية الى افاق علوية من الرقي والسمو لم تألفه دنيا البشر من قبل.
نحن امام نموذج رائع ومذهل في كيفية بناء الدول الحديثة منهج متكامل مترابط منضبط بكل القواعد الخلقية والسياسية والاجتماعية والدينية نموذج في غاية البساطة والروعة ليس فقط لمثاليته اولان النبي صلى الله عليه وسلم هو واضع اسسه والمشرف على تنفيذه ولكن لشموله واستيعابه المتغيرات على الارض وطبيعة المجتمع وخصائصه من تنوع واختلاف وتعدد في الثقافات والعقائد وغيرها وايضا نموذج مستوعب لطبيعة النفس البشرية ونوازعها وصراعاتها الدائمة القبليةالاقتصادية وكل انواع النزوع البشري والانساني المقبول منه والمرفوض.
لكن مما يؤسف له ويجزن ايضا اننا حتى هذه اللحظة لم نتعامل مع تاريخنا العظيم والمحطات المحورية المفصلية فيه بما يجب ان يكون لم نتوقف امامها للدراسة والفحص للافادة في خطط البناء والتحرك لا تعرف سببا حقيقيا لعملية الالهاء المستمرة بعيدا عن الاضواء الحقيقية في الوقت الذي تجد فيه استغراقا كليا لعدد من القشور والوقائع والبحث عن معجزة او روح المعجزة والتسمر امامها..اما اسس البناء واستراتيجيات العمل والرؤى المستقبلية والاشارات والدلالات الحيوية لما جرى ويجرى وكيف كان ولماذا وغير ذلك من تفاعلات تستقيم بها الحياة او للبناء عليها فيما يأتي من ايام فهم غافلون ولاشك لدي في انها غفلة مقصودة غفلة بفعل فاعل مع سبق الاصرار والترصد.
ولعل ابسط مثال على ذلك ما فعله ابناء المسلمين او المفكرون الذين يحملون اسماء اسلامية مع النظرية الماركسية او الشيوعية اوالرأسمالية اوغيرها وكيف خدموها وفحصوها ومحصوها وزينوها في اعين الناظرين وكادوا يحولونها الى عصير او مضاد حيوي يريدون بل ارادوا ان يفرضوه على العالم ولكن خابوا وخسروا وسقطت معهم تلك النظريات وفشلت فشلا ذريعا وعزعليهم سقوطها وانهيارها ولكنهم لم يفكروا مرة في العودة عن غيهم وتقديم ما لدى الاسلام من كنوز في عملية الاصلاح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي التعليمي وغيرها ولولمرة واحدة ولوعلى سبيل التجربة..بل والانكى من ذلك ان ساهموا في خلق العدو البديل لأنظمتهم ونظرياتهم الفاشلة ولم يتورعوا في الاعلان عن كون هذا البديل هو الاسلام!
لا احد ينكر من العلماء الاقدمين والمحدثين ان دولة المدينة المنورة كانت الشرارة الاولى لبناء الدولة المعاصرة الحديثة بكل معنى الكلمة من قبل ان يضع الفلاسفة الغربيون والمنظرون اي قواعد او شروط لتلك الدولة المدنية وكل ما ينظم شئون الحياة وعلاقاتها المتشابكة والمعقدة بين الافراد والجماعات في الداخل والخارج وذلك في اطار تشريعي قانوني دستورى من ارقى واوفي ما يكون ومن افضل وانقى ما عرفه الفقه الدستوري والقانوني وبصورة مبهرة ومدهشة.
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على وضع وتكريس دستورين مهمين مع لحظات النور الاولى والاشراقات المحمدية على يثرب..دستورين فيهما الحل والنجاة لاكبر ازمتين تواجهان العالم ولا تزالان حتى الان تنغصان كل الحياة شرقا وغرب.
الاول الدستور الاخلاقي العالمي..دستور متميز وفريد ويكاد يكون نسيج وحده في دنيا الاخلاق..ويكفي هنا الاشارة لما عرف بنظرية ومنهج وفلسفة المؤاخاة ليس فقط بين المهاجرين والانصار وانما بين ابناء المجتمع داخل المدينة وعلى حوافها الخارجية..وكان هذا الاخاء هو حجرالزاوية في حضارة الاسلام كما قال المؤرخون.
والغريب انه اذا كان العالم يعاني انهيارا وفسادا اخلاقيا فان الازمة على المستوى والصعيد العربي والاسلامي اشد وانكى. واذا وضعتها على اي معيار اصابتك الدهشة حد الجنون فعلى مقياس ومعيار الانصار النتيجة عار و شنار. لا والف لا ولا حتى درجة واحد.. وعلى معيار المهاجرين المعادلة دون الصفر بكثير فلا نحن من الانصار المحبين ولا من المهاجرين المبايعين لا تحت الشجرة ولافوقها..لا الى هؤلاء ولاالى هؤلاء!ويمكن القول بكل اريحية ان مسلمي اليوم لاهم من المهاجرين ولا من الانصار فهم الى بني قينقاع اقرب!
الثاني اول دستور حقيقي عرفه العالم وهو المسجل والموثق في صحيفة المدينة.. وثيقة مدهشة بالفعل وببنودها اعتبرها المؤرخون والسياسيون الغربيون وغيرهم بانها فتح جديد في الحياة السياسية والحياة المدنية في العالم يومئذ..هذا العالم الذي كانت تعبث به يد الاستبداد وتعيث فيه يد الظلم فسادا.
الوثيقة السياسية المتفردة وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من ألف واربعمائة وخمسة واربعين سنة تقرر حرية العقيدة والعبادة وحرمة المدينة وحرمة الحياة وحرمة المال وتحريم الجريمة.
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انفرد من بين جميع الأنبياء بأن عقد أكبر وأعظم وثيقة سياسية لم يسبقه إليها نبي ولم تتجاوزها في روحها ودلالتها أي وثيقـة تاريخـية معروفة الـيوم..
وثيقة المدينة المنورة اشتملت على بضع وخمسين بندا لتنظيم امور المجتمع بكل اطيافه وفئاته الاجتماعية والدينية والوثنية وتعتبر أول دستور مدني في التاريخ وقد أطنب فيه المؤرخون والمستشرقون على مدار التاريخ واعتبره الكثيرون مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية ومَعلَمًا من معالم مجدها السياسي والإنساني.
يقول المستشرق الروماني جيورجيو: حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بندا كلها من رأي رسول الله. خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة أى عام 623م.ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده”.
اللافت للنظر ان كل العالم يقرأ ويفحص ويمحص سيرة وحياة النبي الاعظم سواء ليتعلموا او ليضعوا خطط المواجهة لإجهاض الخطط والطموحات الاسلامية او على الاقل لإجهاد المسلمين وتبديد طاقاتهم..الا المسلمين فانهم حيارى غائبون مغيبون ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
**يقول برنارد شو:«قرأتُ حياة رسول الإسلام جيدًا مراتٍ ومراتٍ فلم أجد فيها إلا الخُلُق كما ينبغي أن يكون وكم ذا تمنيت أن يكون الإسلام هو سبيل العالم».
نعم نستطيع..والله المستعان.
Megahedkh@hotmail.com