لا شىء يبقى على حاله.. بتلك الجملة الشهيرة التى تتناوبها الألسنة صباح مساء، أصف حال واقعنا اليوم، وما يجرى على الساحة المحلية والإقليمية والدولية من مُتغيِّرات وتقلُّبات، فرضتها الأحداث المتلاحقة التى تضرب العالم يومًا بعد يومٍ، فمنذ أعوامٍ استيقظ الجميع على أزمةٍ اقتصاديةٍ عالميةٍ ألقت بظلالها على سكان الكوكب، شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، أثَّرت على حياة الناس ومعايشهم، وأحكمت موارد دولٍ وأطاحت بأخرى، وأغلقت كيانات كبرى، كانت ملاذًا لملايين العباد، وبابًا واسعًا لأرزاقهم، ورفعت من قيمة خدمات وبخست بأخرى، حتى رأينا الراكب يسير جنبًا إلى جنبٍ إلى جوار المُترجِّل، والمُتسيِّد يخطب ود النامى المُنقاد، فما كان من صُنَّاع القرار فى بلدانهم إلا أن يُفكِّروا خارج الصندوق لإنقاذ شعوبهم، والأخذ بأيديهم لعقدٍ جديد، وقد ظلَّت الكارثة قائمةً برهةً من الوقت، نجا فيها من نجا وغرق من قُدِّر له الغرق، مع جنونٍ فى الأسعار ومغالاةٍ للسلع وصعوبةٍ فى الحصول عليها.
لم تكد تهدأ عاصفة الأزمة الاقتصادية العالمية، وما خلَّفته من دمارٍ وخرابٍ على جميع المستويات وفى كل المجالات، بكل الأقطار والأوطان، وتُعطى الوقت لالتقاط الأنفاس، إلا وأعلنت الصين عن وباءٍ فيروسى ظهر وانتشر فى رقعةٍ من أراضيها، بمدينة ووهان، جرَّاء الخفافيش المُصابة به، وانتقاله للإنسان عبر النَّفس، وقد يمتد ليُمثل تهديدًا عالميًا يقضى على الناس، وهو ما حدث بالفعل، ما أعاد بالاقتصاديات كثيرًا للوراء، بعد أن فرضت الدول إغلاقًا كليًا، عقب انهيار أنظمتها الصحية رفيعة المستوى، وتسبُّبها فى فقْد الكثير من الأرواح وإلحاق النكبات، وما زالت آثارها السلبية تتفاعل معنا إلى الآن، ولا أحد يستطيع الجزم بنهايتها، بعد عجز العِلم والطب فى وضع حلٍ جذرىٍّ لها، وفشل الكبار فى وقف الزحف الوبائى القاتل، ومنعه من أن يتسلَّل إلى داخل صوامعهم وجحورهم.
كل هذا وغيره كان كفيلًا بتدمير كيانات عُظمى، وهدم أبراجٍ شاهقة، وتحصينات ما كان لها أن تُخترق، اللهم إلا بطامةٍ كبرى، وأمرٍ جلل؛ كالذى نحن بصدده، فلا غرو أن تسمع عن اختفاء حِرفةٍ، واندثار صنعةٍ، وتلاشى مهنةٍ، وبروز كيانات جديدة، تتطلَّبها المرحلة وتحتاجها؛ لكى تستمر الحياة وتعود لطبيعتها، ولكن بشكلٍ ولونٍ وطعمٍ مختلف غير الذى عشناه بالأمس القريب، وهو ما يفرض علينا جميعًا مسايرته، ومواكبته، والتعاطى معه، والعمل على غرسه؛ ليُصبح مألوفًا للواقع، مقبولًا للبشر، ومتماشيًا مع الظروف والسنوات العُجاف.
فى خضم الملمات وتعاقبها، حاولت الصحافة الورقية، كواحدةٍ من أكثر القطاعات التنويرية وأقدمها، أن تصمد قدر المُستطاع؛ لتؤدى واجبها الريادى الذى كُتب عليها، وتبعث برسالتها الجليلة التى نشأت من أجلها، لكن الطوفان كان شديدًا، والبركان نيرانه ظلَّت مُشتعلةً، أتت على الأخضر واليابس، إذ ارتفعت أسعار الورق عالميًا، وتعاظمت النفقات التى تتطلَّبها تلك الصناعة نظير الطباعة والنقل والتوزيع، مع تراجعٍ للمحتوى الإعلانى الذى يُساعدها على البقاء، والعجز الواضح فى تدبير الأجور، وحاجة مؤسسات ضخمة لتسريح جزءٍ من طاقتها البشرية التى أضحت أساسًا لأعبائها، مما أعطب وجودها، وأوقف تقدُّمها، وباتت مهددةً هى الأخرى بالانقراض، وإن لم يحدث حاليًا، فالمؤشرات تُنبئ بالعواقب، وكل ساعةٍ، هناك جديد.
لقد فرض الواقع فى هذه المِحن والشدائد، سياسة التواصل عن بُعد، والتعامل عبر الأسلاك والشاشات، فكان ضمن ما كان أن طفت على السطح خاصية المعلومة الرقمية، التى نشأت المواقع الإلكترونية، ومنصات التواصل الخاصة والعامة من أجلها، فأصبحنا نطلع على الأحداث فى أى مكانٍ فور حدوثها، ودون الحاجة لانتظار طبع الصحيفة أو صدورها، بل إن وسائل التواصل الاجتماعى ذاتها باتت مُتعددةً ومتنوعةً، وروادها لا حصر لهم اليوم، وبمجرد وقوع الحدث، تراه ينتشر بسرعة الصاروخ، وكأنك كنت شاهد عيانٍ عليه، وهو ما ضاعف أعباء المطبوعة الورقية، وجعلها عاجزةً تمامًا عن أداء دورها، وحدَّ من متابعيها وجمهورها، وزاد من منافسيها الذين باتوا أكثر نشاطًا منها، وهو ما أجبر البعض على اتخاذ قرار الغلق والتصفية، وذهب بالبعض الآخر إلى التغيير للجديد؛ من خلال العمل الإلكترونى الواعد، وهناك من يُقاوم للحفاظ على الكيان المتوارث عبر الأجيال، مؤمنًا بأن المباراة قائمة، والأهداف تُحدِّد الفائز من الخاسر، والأجدر من يُحافظ على شباكه نظيفةً.
للحق أقول، لم ولن يستغنى رجل الشارع عن ضالته القديمة فى معرفة أخبار عالمه، وليس مُتصوَّرًا أن ينسى الموظف الذاهب إلى عمله جريدته المُفضَّله التى تُخبره براتبه ومستقبله، أو يبتعد رواد المقاهى عن شرب الشاى بصحبة المطبوعة التى تكون مسار تعليقاتهم وحلقاتهم النقاشية، كما أنه ليس كل البشر يُجيدون التعامل مع التكنولوجيا، أو يعرفون التصفُّح عبر الهواتف، ويقينًا ستبقى المطبوعة الورقية تُمارس نشاطها وإن ابتكر العالم ألف طريقةٍ للخبر تصل للآذان مباشرةً دون التصفُّح، وإن غدًا لناظره قريب.