لأنهم بالفعل أصبحوا قلة ضئيلة، يحق لنا أن نحزن بشدة عندما يفارقنا واحد منهم، أولئك هم أولاد الناس الذين لا تجد من الكلمات ما تعبر عن وصف الواحد منهم سوى كلمتى : ابن ناس، بالمعنى المجازى للتعبير وليس بالمعنى الحرفى له، فكل الناس بالطبع أولاد آدم وحواء لكن أبناء الناس الحقيقيين هم أولاد الناس الذين نشأوا أو بالبلدى الفصيح هم «المتربيين» على الصح والخطأ، الذين يعرفون ما هو العيب ويجتنبوه، ربما انت لا تعرف آباءهم وأمهاتهم معرفة شخصية ، وربما بل وغالبا لم تقابلهم حتى ولو مرة فى حياتك ، لكنك تعرف آثار تربيتهم على وجوه أبنائهم، بل أزيدك من الشعر بيتًا، ربما تطلق لقب ابن ناس على شخص قابلته مرة وحيدة فى حياتك ولم ولن تراه مرة اخري، لكنك فى تلك المرة الوحيدة هتفت من أعماقك:هذا ابن ناس.
وهكذا كان كل من زميلنا الراحل اشرف اكرام مدير تحرير الأخبار والأبن العزيز محمد الهجرسى مساعد مدير تحرير الأخبار نموذجا حقيقيا لمعنى لقب ابن ناس، لا أظن أن شخصا قابل أشرف مرة أو الهجرسى خارج نطاق العمل دون أن يعرف أى منهما معرفة شخصية إلا وهتف:هذا الرجل ابن ناس،كان أشرف يملأ صفحات الجريدة بخبطاته وانفراداته الصحفية دون أن تسمع له صوتا بعيدا عن صوته الذى يجلجل من خلال الموضوعات التى يكتبها، لا تسمع صوته إلا عندما يلقى عليك التحية بطريقته شديدة التهذيب عندما يلقاك قدرا فى طرقة الطابق الثامن بمبنى موسى صبرى الذى يضم مكتبينا فى الجريدة.
منذ وصول أشرف يوميا لمكتبه وحتى مغادرته لا يشغله شيء إلا ما سيقدمه اليوم من انتاج للنشر فى عدد الغد من معشوقته الأخبار، ثم بعد أن يغادر المكتب فى وقت متأخر بعد أن يطمئن على موقع ومساحة شغله فى الطبعة الأولى ، يظل يتابع ما قدمه من أخبار وموضوعات بالتليفون مع زملائنا المسئولين عن طبعات الغيار السريع ثم الثانية والثالثة، ويقينى أن أشرف وهو مدير تحرير للأخبار كان أول قارئ يشترى أول نسخة من التوزيع الليلى للجريدة، فلا أظن أن من كان له نفس الهم والحرقة على إنتاجه يمكن أن يداعب النوم جفونه قبل أن تداعبها نسخة الأخبار بين يديه ليرى إنتاجه منشورا بالطريقة التى يحبها.أظن أنه لم يخلو عدد من الأخبار من خبر أو موضوع لأشرف منذ دخوله الجريدة وحتى رحيله عن عالمنا.ظاهرة تستحق الدراسة فى حب العمل والشغف به.وكان محمد الهجرسى قد اختار التخصص فى كتابة أوجاع الناس التى ترد الى بريد الأخبار بطريقة متفردة جعلت منها واحدة من الفقرات الرائعة التى تمس الناس لأنها منهم ولهم.اكتشفت الآن والآن فقط أن حب أشرف والهجرسى الشديد للعمل وانهماكهما الشديد فيه جعلنى – وربما كثيرًا من الزملاء يشاركونى نفس الشيء – لا أعرف شيئا عن حياتهما خارج مبنى الجريدة، هل تصدقونى لو قلت أنى لا أعرف كم كان عمر أى منهما؟ كيف أعرف وهما قد حافظ كل منهما طيلة حياتهما بيننا على نفس الوجه ناصع البياض المتبسم فى وقار وهدوء لم يسمح لتجاعيد او ترهلات أن تزحف عليه.
فعلا انا لا أعرف أين يسكنا ومن هم أفراد عائلتهما ولا حتى أسماء أبنائهما ، لم اسمع أى منهما كما هى عادتى وعادة كثير من الزملاء يتحدثا مثلا فى التليفون الأرضى ولا المحمول محادثة نفهم منها أن على الطرف الآخر زوجته أو أحد أولاده، فلم يكن كل منهما يتكلم إلا همسا، ولو ارتفع صوته قليلا نفهم أنه فقط يحادث أحد مصادره الصحفية خاصة أشرف الذى تخصص فى الكتابة عن الكشوفات الأثرية المهمة وكان يفرح بها وكأنها تم اكتشافها فى منزله مثلا وأنها أصبحت ملكية خاصة له وحده .كان أشرف يفرح من قلبه لكل شيء يجعل مصر تفرح.وكان الهجرسى ذلك الصامت الوقور الذى تقرأ فى صمته ما لا تعبر عنه ثرثرة الآخرين. وعزاؤنا أن سيرتكما الطيبة ستظل فخرا لنا جميعا ،وكل العزاء لأسرتيكما.