فى 30 يناير الماضى فقدت الأمة الإسلامية المفكر السورى الكبير جودت سعيد ( 91 عاما ) الذى ظل يدعو لأكثر من 40 عاما إلى فكرة ” اللا عنف الإسلامى “، حتى عرف فى الأوساط العلمية والدينية بـعدة ألقاب لعل أشهرها ” غاندى العرب ” و ” داعية اللا عنف ” و ” فيلسوف السلام “، وكانت أفكاره مثيرة للجدل على الدوام حتى بعد رحيله.
ولد جودت سعيد فى محافظة القنيطرة بسوريا عام 1931، وترجع جذوره إلى أصول شركسية، وقد تلقى دروسه الدينية الأولى على أيدى علماء سوريين، ثم استكمل تعليمه فى الأزهر حيث درس العلوم الشرعية واللغة العربية، وانخرط فى الحياة الثقافية المصرية التى كانت تموج بالعديد من الاتجاهات والتيارات، وتأثر كثيرا بكتابات رواد الإصلاح الدينى مثل عبدالرحمن الكواكبى والشاعر والفيلسوف الباكستانى الكبير محمد إقبال والمفكر الجزائرى الشهير مالك بن نبى، فانتهج مثلهم منهج الاعتدال ونبذ العنف، ودعا إلى صيانة السلم والأمن المجتمعى كقاعدة شرعية أساسية.
ينتمى سعيد إلى المدرسة الإصلاحية الإسلامية، وقد ركز جهوده الفكرية على ضرورة الإصلاح الداخلى فى المجتمعات الإسلامية بدلا من تحميل الاستعمار وزر جميع المشاكل التى تعانى منها هذه المجتمعات، وعلى مدار حياته الطويلة قدم للمكتبة العربية والإسلامية أكثر من 10 كتب قيمة أشهرها كتابه ” مذهب ابن آدم الأول ” الذى أصدره عم 1966 ، والذى ذاع صيته، حيث كان يرد فيه على توجه بعض التيارات الإسلامية نحو العنف السياسى، وتكمن أهميته فى أنه كان أول محاولة لصياغة مفهوم لاعنفى إسلامى فى التاريخ المعاصر .
ثم أصدر كتاب ” حتى يغيروا ما بأنفسهم “، و” فقدان التوازن الاجتماعى “، و ” العمل قدرة وإرادة “، كما أصدر مجموعة من الكتب الإرشادية فى سلسلة بعنوان ” سنن تغيير النفس والمجتمع “، تعالج قضايا الحياة الشخصية والاجتماعية، مع التركيز على أن اللا عنف هو سبيل إسلامى أصيل لابديل عنه ، والتأكيد على دعوة القرآن إلى التعايش السلمى بين الفرقاء المختلفين سياسيا أو مذهبيا أو دينيا.
وفى عام 1988 أصدر كتابه ” إقرأ وربك الأكرم ” الذى طور فيه مفهوما جديدا لتفسير القرآن الكريم خلص فيه إلى أن القرآن لايطلب من المؤمنين البحث عن المعرفة فى صفحاته وإنما فى الوجود المادى للكون، لذا يركز على فكرة ” السير فى الأرض ” والنظر فيها، وهى فكرة تكررت فى القرآن 13 مرة، كما يركز على الأمر القرآنى بالقراءة ويوضح أهميتها فى معرفة تاريخ المجتمعات وأسباب تقدمها وتأخرها.
ومن أبرز العبارات التى تتردد كثيرا فى كتبه أنه ” لاتوجد قوة على وجه الأرض تستطيع تغيير قناعات وأفكار أحد باستخدام الضغط والقهر” وأن ” القرآن الكريم يوصينا بعدم استخدام الإكراه فى الإقناع، وإنما يكون الحوار والجدال دائما بالتى هى أحسن، الضغط يولد ردود فعل قوية، مناوئة ومعاندة “.
ولم يغير سعيد منهجه السلمى حتى عندما اضطرته الظروف إلى أن يكون فى معسكر المعارضة السياسية للحكم فى سوريا ويخوض تجربة السجن والاعتقال، وقد أدى تمسكه بهذا النهج إلى إثارة متاعب كثيرة له مع فصائل المعارضة فى فترات مختلفة من حياته، حتى صار فى أحيان كثيرة مرفوضا من الحكم ومن المعارضة على حد سواء.
وعندما اندلعت مظاهرات الثورة السورية عام 2011 كان مؤيدا لها ضد الرئيس بشار الأسد، لكنه كان يصرعلى سلمية المظاهرات ويرفض لجوءها للعنف، كما كان يصر على عدم تسليح المتظاهرين وعسكرة الثورة حتى لاتتحول من ثورة شعبية سلمية إلى حرب أهلية مدمرة، وهو ماحدث للأسف الشديد.
وفى كل الكتابات والمقابلات الصحفية والتليفزيونية التى أجريت معه فى بداية اندلاع الاحتجاجات والمظاهرات كان يدعو إلى التمسك بالنضال السلمى وعدم الانجرار إلى المواجهات المسلحة وممارسة العنف ضد الدولة والمجتمع، ومن أبرز ما نقل عنه فى ذلك قوله : ” إذا نجحت الثورة بالسلاح سنظل محكومين بالسلاح “، و ” كل ما أخذ بالسيف بالسيف يهلك “، و ” الديمقراطية لاتحل فى بلد إلا إذا قال جميع الفرقاء فيه لن نلجأ للعنف “.
وقد وجهت اننقادات عديدة لأفكار جودت سعيد، ووصفه البعض بأنه مفكرعلمانى يبشر بمذهب مادى، فهو يرى ـ على سبيل المثال ـ أن التوحيد مسألة سياسية اجتماعية، وليست مسألة ميتافيزيقية إلهية، بمعنى أن توحيد الله فى السماء يعنى المساواة بين البشر على الأرض، ويقول إن سنن الله فى الكون والتاريخ البشرى وتجارب الناس والأحداث هى الدليل على صحة وصدق القرآن، ما يعنى أن التاريخ والتجارب هى مرجع القرآن ودليل صدق مافيه من قوانين، ويطرح فكرة الزيادة فى الخلق، فالعالم حسب فهمه للقرآن ” لم يخلق وانتهى” ، أى لم يكتمل خلقه، وإنما لايزال يخلق، فالقرآن يقول “يزيد فى الخلق مايشاء” و “يخلق مالا تعلمون”، واعتمادا على ذلك وضع سعيد مرتبة جديدة من مراتب الوجود هى ” الوجود السننى “، أى وجود الشيء كقانون وسنة حتى قبل وجوده بالفعل.
ويتكرر فى فكره “مفهوم النفعية” بكثرة معتمدا على النص القرآنى “كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ماينفع الناس فيمكث فى الأرض”، فيعتبر أن النافع هو ما يبقى فى الأرض، والزبد يذهب جفاء، والنافع هو المقدس، وأن الحق والباطل إذا ما أعطيا فرصا متكافئة فإن الباطل سيزول والحق سيببقى.