لا يستطيع المرء إلا أن يصفق لمحافظ بورسعيد اللواء عادل الغضبان، ليس لمروره على مدارس المدينة فى أول يوم دراسى، وإنما للشفافية التى تحلى بها وهو يعلن على الملأ أن مدرسة بورسعيد الإعدادية لم يحضر من طلابها إلا 11 طالبا فقط من 652 طالبا مقيدين بالمدرسة، وهى نسبة تصرخ فى وجوهنا وتلطم وجوهنا: أى نظام تعليم وأى مدرسة هذه التى يتجرأ أكثر من 98% من طلابها على هجرها والتعامل معها باستهانة؟
وتحية المحافظ واجبة، لأنه لم يكف على الخبر ماجور، وأذاع النبأ الخطير، بل ودخل فى حوار مع بعض الطلبة عن المدرسة والغياب وأولياء الأمور والدروس الخصوصية، على عكس الشائع من ثقافة كله تمام يا أفندم، وأيضا لم يلجأ إلى قائمة الأعذار سابقة التجهيز. قد يكون واجبا من المحافظ أن يمر أحيانا بنفسه على مدارس الإقليم، ليلمس بنفسه أداء المنظومة التعليمية، لكن هذا يفتح بابا لسؤال ساذج: يا ترى كم مدير إدارة تعليمية على امتداد محافظات الجمهورية زاروا المدارس التابعة لهم فى الأسبوع الأول من الدراسة؟، كم وكيل وزارة فعلها؟، وماذا وجدوا؟
إجابة السؤال الأخير مهمة للغاية لنعرف: هل مدرسة بورسعيد الإعدادية هى حالة فريدة؟، هل سجلت مدارس أخرى غيابات؟، وكيف تصرفت لعلاج ظاهرة الغياب الفاحش فى النصف الثانى من العام الدراسي؟
نعم.. نزعت زيارة محافظ بورسعيد كل عمليات التجميل عن نظام تعليم بليد، ونظام التعليم ليس فقط منهجا، ولا امتحانات ورقية أو إلكترونية، ولا تابلت، ولا نسبة نجاح ورسوب، أهم ما فى نظام التعليم: المدرسة والمدرس..وبعدهما تأتى بقية العناصر بالتوازى. كل هذا محكوم بنظام إدارى كفء وصارم فى إجراءاته وأفراده، من أول مشرف الدور، وناظر المدرسة، والوكيل والمدير ومفتش المادة والموجه ومدير الإدارة ووكيل الوزارة والوزير، منظومة متكاملة، صحيح يصعب وربما يستحيل أن تمضى الأمور مثالية وأن تكون كل العناصر ذات كفاءة عالية، لكن ينبغى أن نحاصر المثالب والعيوب وعدم الكفاءة فى أعداد محدودة، ثم نجتهد فى تحسينها وتغييرها أولا بأول. وحالة مدرسة بورسعيد الإعدادية ونظائرها تجبرنا على سؤال الدكتور طارق شوقى وزير التعليم: ماذا فعلت الوزارة خلال السنوات الخمس الأخيرة لتعيد للمدرسة كرامتها ومكانتها فى نفوس أولياء الأمور والمدرسين والطلبة؟ ..ما هو تفسير الوزارة لغياب طلبة مدرسة بورسعيد الإعدادية فى أول يوم دراسى، ومؤكد أنها ليست حالة فريدة؟
المسألة أخطر مليون مرة من التبرير الذى يسوقه أولياء الأمور، وهم فى هذا الغياب متهمون أيضا إلى جانب الوزارة، فأولياء الأمور يشغلهم بالدرجة الأولى أن يمتلك أبناؤهم شهادات دراسية، سواء تعلموا تعليما جيدا يفتح أمامهم كل أبواب الحياة الناجحة، وليس الحصول على وظيفة ومرتب يعيشون به، أو لم يتعلموا إلا كيفية العبور أو التسلل من الامتحانات بكل الأساليب الممكنة، فيواجهون الحياة بأدوات غير كافية ويسقط عدد كبير منهم فى الاختبارات اليومية، لأن عقولهم لم تعتد على المنطق السليم والتفكير العلمى المنظم. وإذا مددنا الخط على استقامته..ما هى القيم التى تشكل عقول ونفوس هؤلاء الطلاب الذين تربوا على أن المدرسة والتعليم الصحيح مجرد هوامش، بينما الدروس الخصوصية والملخصات وإتقان حل الامتحانات بالتجريب والتكرار وليس بالفهم والمعرفة هى الأنفع، وأعرف طلابا حصلوا على درجات تتجاوز 90% ومستواهم العلمى لا يتجاوز 50%، وقالت لى مدرسة: بعض طالباتى حصلن على درجات نهائية فى الرياضيات بسبب تدريبهن على مسائل تماثل ما يأتى لهن فى الامتحانات، والفارق الوحيد هو الأرقام فقط، فكن يتبعن نفس الخطوات التى حفظنها ويبدلن الأرقام الواردة فى أوراق الامتحانات بالأرقام التى يعرفنها. طبعا الإجابات المحفوظة فى العلوم النظرية أسهل.. باختصار نحن نزرع الإهمال والاستهانة وعدم الدقة عمدا فى ملايين التلاميذ من أبنائنا.. وللأسف نحن نعيش داخل هذه الدوامة منذ أكثر من 30 سنة..طلبة يتفوقون فى الدرجات ونصف ناجحين فى الحياة، عملا وعلاقات اجتماعية وعامة.
فلماذا إذن نتعجب من ضعف الأداء العام فى وظائف مختلفة؟، ألم نزرعه عمدا ونحصد ثماره حنظلا؟
قطعا فيه مدارس فى غاية الانضباط والالتزام، أغلبها مدارس خاصة وأقلها مدارس حكومية حافظت على تقاليد ورثتها عبر تاريخ طويل، وأمسك مديروها بجمر الجدية بالرغم من كل التسيب الشائع، نعم هناك طلبة شُطار بحق وحقيقى، ونسبتهم قد تقل أو تزيد حسب الظروف، لكن لو ارتفعت نسبتهم إلى 50% من إجمالى الطلاب الذين يقترب عددهم من 25 مليون طالب فى كل مراحل التعليم، فهى لا تصح، إذ يجب ألا تقل عن 85%، إذا أردنا مجتمعا جديدا يعيش أحوالا أفضل مما عشناها. طبعا لم نفتح ملف الأستاذة وداد حمدى التى اعتدى عليها أولياء أمور الطلاب فى مدرسة محمد الشقوى الابتدائية بالسنبلاوين – دقهلية، عقابا لمنعها أبناءهم من الغش الجماعى فى امتحانات نصف العام، ولم ينقذها إلا قوات الشرطة.
الغش ظاهرة لم تقدر الوزارة عليها، كما لو كانت جبلا راسخا على أنفاس التعليم، مع أن علاجه سهل، فقط يستغرق بعض الوقت، لكن يلزمه إرادة حديدية وكثير من الضبط والربط. طبعا لن نسأل أولياء الأمور ماذا تنتظرون من أولادكم الذين تربوهم على الغش من الصغر؟
مؤكد أن د.طارق شوقى ورث نظاما تعليميا رديئا، وأيدنا إصراره على تطويره وتصحيح مساره، لكن أولوياته فى التطوير قد نختلف عليها، فالمنهج والامتحانات جزء منه، لكن المدرسة والمدرس والإدارة الكفء هى الجوهر، ودون إصلاح هذا الثالوث إصلاحا جذريا، لن ينقذ المنهج الجديد ولا الامتحانات الإلكترونية نظام التعليم.