” الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها “، هذا الحديث النبوى الشريف يفتح أمام العقل المسلم طريق المراجعة وإعادة النظر ـ دون حرج ـ فى مفاهيم وقناعات كانت مستقرة عنده، وكان من وصية سيدنا عمر بن الخطاب لأبى موسى الأشعرى رضى الله عنهما فى أمر القضاء : ” ولا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه رأيك، وهديت لرشدك، أن تراجع الحق، فإن الحق قديم، لايبطل الحق شيء “.
يكفى هذا لأقول إن ما ظهر لنا هذه الأيام من إجراءات شيطانية لمحو الهوية الإسلامية، ونقض عرى الإسلام فى بلاد الإسلام عروة عروة، يجب أن يحملنا على إعادة النظر فى بعض الأفكار التى كنا مقتنعين بها وداعين إليها بشأن مايسمى بـ ” تجديد الفكر الدينى “، خاصة ما يتعلق منها بسيطرة المظاهر المنسوبة إلى الدين على حياة الناس أكثر من الدين نفسه .
وإنى لأعترف الآن بأننى كنت أحد دائمى الانتقاد لمظاهر التدين، ليس لكراهية هذه المظاهر الشكلية، وإنما للرغبة فى أن نتجه أكثر بتركيزنا إلى جوهر الدين، وأعترف أيضا بأن هذا الانتقاد المتكرر ربما كنت فيه متأثرا بالإغراق فى دراسة الفلسفة، والاهتمام بالعقل ودوره فى إيقاظ الوعى وتثبيت الهوية، والاشتباك بشكل أو بآخر مع أصحاب مشروعات فكرية تدعو للتجديد والمعاصرة وإعمال العقل، فى مواجهة صور التدين المظهرى الموروثة، ومن هذه الصور على سبيل المثال الاحتفالات الشعبية بالمولد النبوى الشريف، وإقبال الناس على شراء الحلوى من المحلات المنتشرة فى الشوارع، والاحتفالات الشعبية بقدوم شهر رمضان المبارك، والتنافس فى إعداد الزينات وتعليقها، وقس على ذلك احتفالات عاشوراء وبداية العام الهجرى والإسراء والمعراج، والاحتفال بسفر الحجاج وتزيين البيوت لاستقبالهم عند عودتهم وما إلى ذلك .
هذه المظاهر كنت أحسبها تلهى الناس عن جوهر الدين، وكنت أقول مع القائلين إن النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام لم يحتفلوا بغير العيدين، الفطر والأضحى، وهذه الاحتفالات ” الفلكلورية ” تغطى على جوهر الدين، فالاحتفال بمولد النبى صلى الله عليه وسلم ـ مثلا ـ لايكون بالحلوى وأناشيد الصوفية فى الشوارع، وإنما بتدارس سيرته العطرة، والتمسك بسنته فى حياتنا، والاقتداء به فى معاملاتنا اليومية، حتى نكون جديرين بأن نوصف بأننا ” أمة محمد “، ومثل هذا الكلام ينطبق على مظاهر الاحتفالات الأخرى التى تكتسى برداء دينى، والتى عايشناها أطفالا وصبيانا فى قرانا وبين أهلنا .
ثم .. ثم جاءت الطامة الكبرى، تغيرت البلاد ومن عليها، وتغيرت معطيات كثيرة فى الواقع، ورأينا أن اختفاء المظاهر الدينية جعل مظاهر أخرى ـ غريبة مستوردة ـ تحل محلها، مظاهر لاتمت لثقافتنا وديننا وهويتنا بصلة، بل تتعارض تعارضا تاما مع تقاليدنا وعاداتنا وثقافتنا وديننا وهويتنا وشخصيتنا الوطنية والقومية .
انسحاب المظاهر الدينية من حياتنا دفع بالمظاهر الأخرى ” المخالفة ” إلى أن تتسلل إلينا رويدا رويدا، بمقتضى ” نظرية الفراغ ” الفيزيائية، إذ حالما ينتفى عنصر أو يغيب يحل مكانه عنصر آخر من دون أى تأخير، فالإناء الفارغ مليء فعليا بالهواء قبل أن يمتلىء بالماء، ولن يمتلىء بالماء إلا إذا خرج منه الهواء، وكذلك المجتمع، عندما تختفى معالمه الإسلامية تبدو فيه معالم ومظاهر غريبة دخيلة عليه تدريجيا، حتى يأتى اليوم ـ لاقدر الله ـ الذى تطغى فيه هذه المظاهر المستوردة لتعطينا سمتا غير سمتنا، وصورة غير صورتنا، وشخصية غير شخصيتنا.
هذا الأمر لايتعلق بالمجتمع المصرى وحده، وإنما صار واضحا فى كثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فحين تقلصت احتفالات المولد النبوى اتسعت احتفالات رأس السنة، ولما سخرنا من حلوى المولد ظهرت شجرة الميلاد، وعندما خفت صوت الاحتفال بالإسراء والمعراج ظهر تيار يشكك فى الإسراء والمعراج، وينفى وجود المسجد الأقصى من الأساس .
والعجيب أن بعض العواصم الإسلامية التى كانت ترفض رفضا باتا الاحتفال بالمناسبات الدينية، وتمنع مواكب الاحتفال بالمولد النبوى باعتبارها بدعة، صارت اليوم تسمح بمسيرات للمتنكرين والمتخنثين ومن شابههم، من باب ” الترفيه للجميع “.
وهكذا أتت الرياح بما لا تشتهى السفن، فبدلا من ترشيد المظاهر الدينية واتخاذها مدخلا لتعميق الروح الإسلامية لدى المسلمين، أعطى اختفاء هذه المظاهر الفرصة لمظاهر أخرى كى تتصدر حياتنا، وتصبح جزءا من أسلوب معيشتنا نعتاد عليه، رغم أنه دخيل علينا ومخالف لعقيدتنا .
ولعل نظرة سريعة على مشاهد الخلاعة وموائد الخمر والميسر التى تظهر فى بعض أفلام السينما ” الأبيض والأسود ” تكفى شاهدا على ما كان من سيطرة التغريب على حياة الطبقات العليا فى المجتمع، إلى الدرجة التى جعلت مراسم الزواج لا تكتمل إلا بوجود راقصة شبه عارية بين الرجال .
إن المظاهر الإسلامية فى مجتمعنا شيء أساسى يجب الحفاظ عليه وترشيده، وقد لا تقل أهمية عن جوهر الدين، ومعروف أن روح شهر رمضان فى مصر ـ مثلا ـ لها طعم مميز عن أى بلد آخر، وبسبب هذه المظاهر التى نستهين بها كان الأشقاء العرب يأتون إلينا ليقضوا معنا بعضا من أيام وليالى الشهر الكريم .
وبهذه المناسبة أدعو أصدقاءنا الذين دأبوا على مهاجمة الأذان وميكروفونات المساجد إلى أن يراجعوا أنفسهم، فعندما كان قرآن التراويح يصدح من بيوت الله وعبر أثير الإذاعة والتليفزيون كانت الحركة فى الشوارع تكاد تنعدم، فالكل يتذكر هذه السنة المباركة ويسعى لإحيائها، ولما خفتت أصوات المساجد علت أصوات المراقص والملاهى، واكتظت الشوارع بضجيج أغانى المهرجانات من السيارات والميكروباصات، وفقدنا مظهرا جميلا من مظاهر الشهر الفضيل .