تبدو العلاقة بين ما بعد الحداثة ﻛ «حركة فلسفية» وما بعد الحداثة ﻛ «حركة فنية»، ملتبسة بعض الشيء؛ إذ لا توجد نصوص صريحة لفلاسفة ما بعد الحداثة تُدافع عن التغيرات التي لحقت بمفهوم الفن أو تُهاجمها، كما أن «النظرية الجمالية» بمعناها التقليدي قد فقَدت بريقها وحلَّ محلها مجموعة من التأملات والتحليلات لبعض الأعمال الفنية — خاصة الأدبية — مما أدَّى إلى طغيان الجانب التطبيقي على الجانب النظري،
وربما أدَّى هذا إلى صعوبة استخلاص نظرية جمالية عامة لأي من مُنظِّريها. لكن مع ذلك يُمكن القول إن هناك تلاقيًا واضحًا بين المقولات التي يُنادي بها فلاسفة ما بعد الحداثة والتغيُّرات التي طرأت على مجال الفنون، ثمَّة تواؤُم وتصالح بين الاثنين، بل إن المقولات التي أفرزتها الفنون المختلفة وأصبَحَت تتحرَّك من خلالها وفي ضوئها، هي نفسها المقولات والقيم التي ناقشناها في الفصل السابق. وفي هذا يقول بريان ماسومي: «إن المفاهيم التي طرَحها دولوز وجاتاري تَتقاطع مع كل النتاج الفني ما بعد الحداثي.»
سرعان ما بدأت مكانة الإنسان «الفرد» في الرسوخ مع عصر النهضة، الذي يُعَد بحق عصر النزعة الإنسية، والعودة لكل ثقافةٍ مركزُها الإنسان؛ فلقد شيَّد الفن في عصر النهضة ذاته على فكرة العودة للماضي اليوناني والروماني، في محاولة لإبطال مفعول التوجُّهات الدينية لكل مناحي الحياة، والبحث عن مصدر أكثر ثراءً لحياة الإنسان، ولكنه في عودته تلك كانت عينه على المستقبل الذي يَصير فيه الإنسان مركز العالم وبؤرته. وعلى الرغم من بقاء الموضوعات الدينية في برنامج الأعمال الفنية (أعمال يوهن باخ Bach (١٦٨٥–١٧٥٠م)، على سبيل المثال)،
إلا أنه بدأ مع عصر النهضة النزوع للخروج إلى تصوير الطبيعة واتخاذها موضوعًا للفن، وكذلك العمل على معالجة الموضوعات الحياتية الأخرى. ولم يكن هذا التحوُّل مُمكنًا، إلا من خلال الافتراض المسبق بأنه من وراء الذات والموضوع تقبع مجموعة من القوانين العامة لنظامٍ كونيٍّ راسخ، والصالحة بشكل غير مشروط، حين تستقي منها كل قاعدة فنية، وبالتالي يُعتَبر فهْم هذه القواعد والشروط والقوانين من صلب النظرية الفنية في عصر النهضة.
وقد كان النزوع نحو الدراسة المتأنية للطبيعة، بوصفها مقدمة ضرورية لتحقيق الصدق الفني؛ يُعطي المشروعية لفناني هذا العصر بحيث يصير إبداعُهم مؤسَّسًا على الدراسة والعلم، إلى جانب المَلَكة الإبداعية والخيال الحر الخلاق، حتى لا يَصير الفن مجرَّد صيغة أو حرفة، يمكن لأي أحد أن يَمتهنها، أو مجرَّد نتاج لشطحات ميتافيزيقية لا يمكن الوقوف فيها على محدَّدات تمكِّننا من فهْم الفن على نحو إنساني محض.
لواقع أن مفهوم التمثيل Representation هو أحد المفاهيم الحاضرة في تاريخ الفنون والنظريات الجمالية حضورًا كبيرًا منذ أفلاطون وحتى القرن العشرين. ويعني التمثيل أن الوعي الإنساني يُمثِّل موضوعات العالم الخارجي ويَخلق بداخله صورة ذهنية عنها، هذه الصورة تتعرض لتحولات معرفية عديدة بحيث تُصبح مُكوِّنًا رئيسًا من مكونات الإنسان المعرفية، وتتحكم بالتالي في رؤيته للعالم، ومن ثَم آراؤه وتصوراته عنه. كانت علاقة الإنسان — قبل ابتكار الصورة وتقنيات صناعتها — بتلك الموضوعات علاقة مباشرة دون وسيط، وبالتالي كانت الصورة الذهنية مُطابقة في واقع الأمر للموضوع الذي تُجسِّده (إذا رمزنا للموضوع الخارجي ﺑ «أ»،
فإن الصورة الذهنية الناتجة عن التمثيل الذِّهني له ستُصبِح «أ» أيضًا) بمعنى أن هناك علاقة هوية بين الموضوع الخارجي والصورة الذهنية التي تُمثِّله. على هذا الأساس أسَّس أرسطو لمنطق الهُوية وجعله أحد القوانين الرئيسة للعقل الإنساني. لكن مع اعتماد الصورة كوسيلة معرفية أساسية وخاصة مع ظهور وسائل الإعلام، ستتغيَّر تلك المعادلة (لن تصبح «أ» في علاقة هوية مع «أ»)
ثمة وسيط دخل بين الموضوع وتمثله، وسيترتب على دخول هذا الوسيط حدوث اختلالٍ ما في المعادلة التمثيلية؛ فالصورة كوسيط هنا بين الموضوع والذات التي تتمثله، لا تنقل هذا الموضوع بطريقة محايدة بريئة، كما العين الإنسانية. فالواقع أنه لا توجد صورة بريئة، تمامًا كما لا توجد كاميرا مُحايدة. وهناك مبدأ معروف في الإعلام المعاصر يقول: «ليس المُهم أن تنقل الحدث ولكن الأهم كيف تنقل الحدث.» تحوَّلت الواقعة إذًا من كونها واقعة مُحايدة تكون علاقة الإنسان بها علاقة مباشرة، إلى كونها واقعة مجسدة في صورة تحمل بداخلها رسالة، وتكون هذه الرسالة فاعلة ومؤثرة في تشكيل الواقع.
ويبدو فن التصوير، عبْر تاريخه، من أكثر الفنون التي ارتبطت بمفهوم التمثيل، وذلك نظرًا لطبيعته التي ارتبطت منذ نشأته بتصوير أشياء وموضوعات تَمُتُّ بصلةٍ قوية للعالم الخارجي، وبالتالي فإن المشاهد، غالبًا، ما يقوم باستحضار الموضوع المناظر للشيء الذي تُجسِّده اللوحة، ويبحث في اللوحة عن مدى مطابقتها لهذا الموضوع. ويبدو هنا مدى توافُق منطق الهوية، والبحث عن أساس، بالصورة التي تحدَّثنا عنها، مع رؤية المُتلقِّي العادي الذي يبحث عن التشابه والتوافق، بين ما يُشاهده وبين الأشياء كما يألفها في العالم الخارجي. هنا يَتَّضح أن منطق الهوية متغلغل في العقل الإنساني، بوصفه قانونًا من قوانينه. لكن هذا القانون قد عطَّل مسيرة التلقِّي الجمالي، بالإضافة بالطبع إلى تأثيره القوي على النظرية الجمالية، والدليل الأكبر على ذلك أنَّ مشكلة التمثيل في الفن من أقدم وأهم المشكلات، ولا يُوجد فيلسوفُ جَمال إلا وتعرَّض لها.
ومثل النقلة التي حدثت في الفلسفة من منطق الهوية إلى منطق الاختلاف، فإن تاريخ فن التصوير هو ذاته تاريخ الانتقال من النزعة التمثيلية إلى النزعة اللاتمثيلية «إن التخلي عن المجاز البسيط هو الحقيقة العامة في الفن الحداثي، كما أنه كان حقيقة فن التصوير ككل، وفي كل زمان.»٤٠ فالتصوير الحداثي يصل بدحض التمثيل إلى أبعد الحدود.
بالإضافة إلى ما أحدثه اكتشاف قوانين المنظور في فن الرسم الكلاسيكي من ثورة على مفهوم التمثيل — إذ الحديث عن «رؤية منظورية» للمكان لا يصحُّ إلا عندما يَتجاوز الرسام التمثيل البسيط الذي يَكتفي «بتقليص» الموضوعات الخارجية،
ويعمد على عكس هذا إلى تحويل لوحته في كليتها إلى «نافذة»،٤١ نُلقي فيها ببصرنا على المكان فنحوم في أرجائه بالكيفية نفسها التي يُريد أن يخلقها عندنا الرسام؛ فإن ما أحدثه فن الباروك لا يقلُّ أهمية عن هذا الاكتشاف «لقد ساهم فن الباروك Le baroque لا يتعلَّق الأمر هنا بخدع بصرية كما هو مألوف في الرسومات الباروكية، وإنما يَتعلَّق بماهية الرسم التي غدَت تحتلُّ مع ماجريت منزلة مُغايِرة؛ ففي لوحة «المرآة الزائفة» Le faux-miroir (١٩٣٥م) ثمَّة إحساس مُتزايد الآن — كما يقول كيفين روبنز — بأننا نَشهد ميلاد حِقبة جديدة، حِقبة ما بعد التصوير الفوتوغرافي. وتُمثِّل هذه الحِقبة نوعًا من التطور في التكنولوجيا الرقمية الجديدة الخاصة بتسجيل ومعالجة وتبادُل وتخزين الصور. وهكذا شهدنا خلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين نوعًا من التقارب المُتزايد بين تكنولوجيا التصوير الفوتوغرافي وتكنولوجيا الفيديو والكمبيوتر، وقد أدَّى هذا التقارب إلى تمهيد الأرض لظهور سياق جديد تكون فيه الصور الفوتوغرافية الثابتة مجرَّد عنصر صغير في ذلك العالم الكبير، الذي أُطلقَ عليه اسم الميديا أو العليا hypermedia الفائقة. فالتكنولوجيا الافتراضية بقدرتها على توليد أو إنشاء صور «واقعية» على أساس بعض التطبيقات الرياضية التي تُحاكي الواقع وتُنمذجه، أسهمت في الرفع من شأن التوقعات للتطورات اللاحقة والاستباق لها.٤٧
إنَّنا نعيش الآن عالَم ما بعد الواقع، عالم الفضاء التكنولوجي والواقع الافتراضي والفضاء اللانهائي الذي يَتحكَّم فيه الكمبيوتر والإنترنت والتكنولوجيا الافتراضية،٥٠ عالم الصُّور المُحاكية التي تُشبه الأصل ولا تشبهه، تحاكيه ولا تحاكيه، بل تتفوق عليه وتفارقه، عالم يُشبه كثيرًا كهف أفلاطون الذي تملؤه الظلال والنُّسخ المزيفة.
أخيرًا تبدو السينما هي المثال الأبرز لفنِّ السيمولاكرا؛ فالسينما هي فن الوهم بامتياز، سواءٌ كان هذا بسببِ طبيعتها أم لأنها تخلق عالَمًا ليس له أصل أو مرجع، فهي مرجع ذاتها. إن الصورة السينمائية لا تُعيد إنتاج عالم، وإنما تَبني عالَمًا مستقلًّا بذاته، مصنوعًا من انقطاعات وتفاوُتات، مجرَّدًا من مراكزه كافة. وقد طرَح المُنظِّر السينمائي بيير بورديل P. Bourdil هذا السؤال: هل السينما فن الخداع والسيمولاكر؟ وأجاب قائلًا: «مما لا شكَّ فيه أن السينما هي نموذج لفن السيمولاكر؛
لأنها تُقدِّم لنا عالَمًا مستقلًّا من الصور يُجسِّد مظهر الأشياء ومعناها في الوقت ذاته.»٥١ والواقع أنَّ السينما منذ ظهورها وهي تُثير مثل هذه الأسئلة التي تتعلَّق بطبيعتها وعلاقتها بالواقع؛ ذلك لأنها أكثر الفنون التصاقًا بالواقع وابتعادًا عنه في الوقت نفسه أو كما يقول ميتز Metz: «هنا سرٌّ آخر من أسرار السينما؛ حيث تَدمج واقعية الحركة في لا واقعية الصورة،
مِن ثَمَّ يَتحقَّق المُتخيَّل أو الخيال إلى درجة لم يتمَّ التوصُّل إليها من قبل.»٥٢ وقد ربط العديد من مُنظِّري السينما بين ما تُخلِّقه السينما من إيهام بالواقع، وبين طبيعة المشاهدة السينمائية التي تتفاعل مع هذا الإيهام لدرجة تجعل منه واقعًا موازيًا أو بديلًا للواقع الحقيقي، وقد قال أندريه بريتون: «إنه في السينما يتمُّ الاحتفاء بالطقوس السرية العصرية.»٥٣ وهو بذلك يُعبِّر بشكل جيد عن التقاء النقيضَين: التكنولوجيا والميتافيزيقا في شيء واحد يُسمَّى السينما.