إن أوهامَ الهوية تحجب رؤيةَ الآخر، وتكرّس الانغلاق على الذات، وتفضي إلى افتعال صورة زائفة للذات والآخر، لا توجد إلاّ في المخيلة. يحلّل إدغار موران ما ينجم عن ذلك بقوله: “تؤدي نزعة التمركز حول الذات إلى الكذب على الذات، وبالتالي إلى خداعها،
وهذا شيء ناجم عن اللجوء إلى التبرير الذاتي، وإلى تزكية الذات، والميل نحو جعل الغير مصدر كل الشرور، سواء كان هذا الغير عبارة عن غريب أو قريب لنا. إن عدم فهم الذات هو مصدر مهم جدا لعدم فهم الغير،
فنحن نخفي عن ذواتنا عيوبنا ونقاطَ ضعفنا، الشيء الذي يجعلنا غير متسامحين مع عيوب ونقاط ضعف الغير. تؤدي نزعة التمركز حول العرق، ونزعة التمركز حول المجتمع، إلى أنواع مختلفة من كره الأجانب، ومن النزعات العنصرية، والتي يمكن أن تصل إلى حدود نزع صفة الإنسان عن الأجنبي إن مراجعة عاجلة للأدبيات السلفية، ترينا بوضوح كيف أن هذه الأدبيات بقدر ما تتحدث عن مناهضة الآخر، وانحصار أسلوب التعاطي معه بالقتل والإبادة، فإنها تتكتم على مساحة مهمة في النصوص الدينية، تتحدث عن الرأفة والرفق والعفو والغفران والرحمةـ حتى يخيل لمن يستمع إلى منابر هذه الجماعات، أو يقرأ بياناتها، أنها تتحدث عن دين خاصّ تنحته، وتعيد تشكيله في إطار وعيها، وخلفياتها ومسبقاتها وقبلياتها ومفروضاتها الذهنية، لا علاقة لـه بالنص المؤسس.
إنه دين مشبع بالإكراهات والتعصبات والكراهيات، ينفي الروح التطهرية للدين، ويمسخ ما يختزنه من معان سامية، ويفرغه من محتواه العقلاني، ويحيله إلى مجموعة من المقولات والشعارات المغلقة التي تستنزف الطاقة الحيوية الإبداعية لرسالة الدين، وتفقره، وتمسخه، وتستبدله بمفهومات ومقولات وشعارات مقطوعة الجذور عن روح الدين وجوهره، وتصيره عبئاً ينوء الناس بحمله، ويعطل دينامية التطور في الاجتماع البشري،
ويستدعي القيم الرديئة للبداوة والصحراء والقبيلة، فيبعثها من جديد، ويتبناها، ويدافع عنها، ويسقط عليها قناعاً إسلامياً، بوصفها تمثل الهوية والأصالة، فيما هي في الحقيقة ليست إلا تمثلات وتعبيرات وتقاليد، لبيئة محلية صحراوية قاسية غليظة، رفضها القرآن، ونعتها بتسميات قدحية، وجعلها النقيض لروح الدين ومقاصده الأخلاقية، وأهدافه الإنسانية.
باتت الحاجة ملحة إلى دراسة وتحليل منابع اللاتسامح، وبواعث العنف والكراهية في مجتمعاتنا، والاعتراف بأن الكثير منها يكمن في الفهم المتحجر للدين
ينظر السلفيون للإسلام بوصفه شيئاً منجزاً ولا نهائياً في التاريخ، من دون أن يتنبهوا إلى أن الإسلام دين مثل بقية الأديان، تتنوع تمثلاته وتجلياته في الواقع. والدين بمعنى الظاهرة الأنثروبولوجية التاريخية، يسهم في تشكيل التاريخ، كما أنه يتشكل طبقاً لروح العصر، ومنطق التاريخ والزمان والمكان الذي يتحقق فيه. ومثلما يهدف الدين إلى بناء وتغيير الإنسان، فإن الإنسان أيضا يبني مفهوماته الخاصة عن الدين، ويصوغ نمط تديّنه الخاص؛ أي أن هناك تأثيراً وتأثراً متبادلاً بين الدين والإنسان كفرد وجماعة، مثلما يتأثر الإنسان بالدين، يعيد الإنسان صياغةَ التدين في سياق محيطه ورؤيته الخاصة للعالم. من الوهم النظر إلى الإسلام والمسلمين كأمرين قارّين ساكنين، لا يتحولان ولا يتبدلان، يؤثران في كل شيء ولا يتأثران على مر الزمان، وذلك ما تكذبه وقائع الجغرافيا والتاريخ، وما تخوضه الأديان من حروب، بفعل حالتها الانقسامية المستمرة، وولاداتها فرقا تتفرع إلى فرق، وطوائف تتشعب إلى طوائف. الأديان تخضع للمشروطية التاريخية، والعوامل الزمانية والمكانية المتغيرة.
وهذا يعني أن التفكير الميتافيزيقي والإلهيات المتوارثة لدى المسلمين، كانت مشتقة من طبيعة حياتهم، وشكل النظام السياسي، والفضاء المعرفي والثقافي السائد وقتئذ. لذلك كانت معظم الإلهيات الموروثة تتمحور حول استبعاد ونفي الآخر، وتعمل على تكريس مركزية لاهوتية مطلقة، تجد مثالها الأرضي في الخليفة أو السلطان، وحكومته الشمولية المستبدة. أن هذه الإلهيات لا محل فيها للحرية الدينية، أو إفساح المجال للآخر، ومساواته بسواه من الرعايا على أساس مفهوم المواطنة الحديث.
تتغلب في مجتمعاتنا نزعات التعصب والتشهير الدائم بالآخر، وكأننا في عالم لا يعيش فيه معنا سوى الأعداء، وكأن المجتمعات الوحيدة التي تعرضت للاستعمار هي نحن، فكل أمراضنا ومشكلاتنا وعاهاتنا نعلّقها على هذا المشجب، ونغذّي باستمرار روح الانتقام والكراهية للآخر، في صحفنا وقنواتنا الفضائية ووسائل إعلامنا المختلفة.
وعلى الرغم من أن الاستعمار شمل في القرون الماضية معظمَ الكرة الأرضية، وتوطن في أكثر بلاد العالم عشرات السنين، لكن هذه البلاد تحررت، وتجاوزت ماضيها، والتحق العديد منها بالغرب، بل تقدم بعضُها عليه صناعياً واقتصادياً، لكن مازلنا نحن نتحدث عن الاستغلال والتجزئة والإمبريالية، من دون أن نصحو فنكتشف ما يربض في ميراثنا من مفاهيم سامّة وفتاوى تشرعن الخصومة مع الحياة وكراهية الحياة والانخراط في مواجهة العالم. هل نجرؤ على مصارحة الذات، فننظر في أحكام: “الرقيق، أهل الذمة، الكفار…إلخ”، المتفشية في مدونة الفقه في مختلف المذاهب الإسلامية!
لها نفوذ غريب وخاصة في أمريكا وأوروبا إذ لا تكاد تخلو مدينة من فرع لهذه الدعوة وهناك كثير من الصحف والمجلات التي تتكلم باسمها. وفي أمريكا يوجد المركز العالمي للبحوث الروحية، وكذلك في العالم العربي والإسلامي فإن سرعة انتشارها تدعو إلى العجب وخاصة في مصر حيث توجد لها عدة جمعيات وهناك عدة مجلات وصحف أخرى تروج لها مثل: مجلة صباح الخير، أخر ساعة، المصور، المقتطف، وصحيفة الأهرام فضلاً عن مجلة عالم الروح الخاصة بها.
الرُّوحانية الحديثة: فلسفة يسعى فيها الفرد للاستكشاف الرُّوحي والبحث الذاتي عن الحقائق الإلهية خارج الإطار الديني، تقوم على الفلسفات الشرقية والعقائد الصوفية.
- تحدّد الرُّوحانيّة الحديثة الهداية الرُّوحية بالمصادر الداخلية الذاتية.
-أبرز مظاهر الإلحاد في الرُّوحانية الحديثة:
-عقيدة وحدة الوجود، وأنّ الإله هو كل هذا العالم المشاهد، وأنّ هذه المخلوقات ماهي إلاّ تجلّيات ومظاهر عن الإله فقط.
-وصف الإله بأوصاف؛ كالمطلق والوعي واللاشيء، والفراغ، والوجود الكلّي، والمحبة وغيرها، وهي كلّها أوصاف عرضية لا تقوم بذاتها، هي في حقيقتها معانٍ ذهنية لا تتحقق في الخارج، وهذه صورة من صور الإلحاد، إضافةً إلى أنهذه الأوصاف ترجع في حقيقتها عندهم إلى تأليه الذات الإنسانية وتقديسها، لاسيّما “المطلق” عندهم مرادف للوعي، والوعي هو “الإله”.
لقد أصبح لأعداء الإسلام أساليب في الكيد والتسلل إلى قلوب وعقول الضعفاء تلائم كل عصر, وهذا عصر العلوم التي كشفت تجاربها في القرن الأخير أعجايب وأفانين لم تخطر ببال, مما دعم سلطانها في النفوس, وأكد توقير الناس لها ولكل من يذهب في مذاهبها, فلبست يد أعداء الدين قفاز العلم, واستطاعت من خلاله أن تصافح كثيرا من العقول, وأن تتسلل إلى كثير من البيئات والأوساط, دون أن يشك الناس في أمرها, لكونها تدخل تحت مسمى: الدراسات النفسية والتربوية والاجتماعية, حيث سخرت هذه الدراسات لهدم الدين والخلق وبث الفوضى والانحلال.
لقد رأينا دراسات أصول الأجناس تسخر لتدعيم النزعات القومية المتطرفة التي هبت رياحها على العالم من أوربا إلى العالم أجمع, ورأينا الدراسات التاريخية لا هم لها إلا تقديس زعامات ترد الناس إلى وثنية الجاهلية وعبادة قطعة من الأرض تدعى الوطن, وما وطن الإنسان في الحقيقة إلا عقيدته المتمثلة بدينه الإسلامي الحنيف, وبالجملة فقد أصبحت المعارف الإنسانية بشتى فروعها موجهة لخدمة المصالح والأهواء, وبعيدة عن النزاهة المطلقة, وصار واجبا علينا حين ترد علينا قضية من قضايا العلم أن نتريث في قبولها, حتى نستوثق من أن ثياب العلم لا تخفي تحتها باطلا من أباطيل المغرضين.
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان