يمثل الزمن وجود الإنسان ، والوعاء الذي ينهل منه خبراته ووعيه ، وفيه يصب تجاربه. ومن هذا المنطلق كانت عناية الأدباء والنقاد – على السواء – بعنصر الزمن بوصفه أحد أهم أعمدة البناء الذى ينهض عليه المعمار القصصي ، ولا نكاد نبالغ حين نقول بأن فن القص فن زماني بشكل رئيس كما أن الفن التشكيلي فن مكاني بلا منازع ، والزمن القصصي عامة / الروائي خاصة يعد ” زمنا تخييليا من صنع الخيال الفني ، يستخدم الكاتب لبلورته وتشكيل بنيته آليات فنية تخدم السرد وتحقق شروطه الخطابية والجمالية ” . والمقصود بـ ” تشكيل بنيته ” يعني أننا لسنا أمام الزمن الطبيعي الخطي ( الكرونولوجي ) كما في الروايات الكلاسيكية أو روايات الأجيال أو الروايات النهرية ، بل إننا أمام روايات من نوع آخر ، وهي: الرواية الجديدة ، والسبب في تميز الرواية الجديدة عن الرواية التقليدية راجع إلى ” علاجها المتميز للزمن ” . وبمعنى آخر ، اعتماد الزمن الذاتي بديلا عن الزمن الموضوعي من خلال الاستعانة بالمفارقة الزمنية ، وهي ” تعني دراسة الترتيب الزمني لحكاية ما مقارنة بنظام ترتيب الأحداث أو المقاطع الزمنية نفسها في القصة ” . ومن منطلق المفارقة الزمنية التي أشار إليها ( جيرار جنيت ) كانت الثورة على الرواية التقليدية إلى الرواية الجديدة ، والتي خضع فيها الزمن للتشظي ، واتخذ الأدباء والنقاد – على السواء – من التشوه الزمني بتعبير الشكلانيين الروس جمالا فنيا وعلامة على الجدة. وباستقراء الإنتاج الروائي للكاتب / صنع الله إبراهيم لا نكاد نرى رواية من رواياته تخلو من هذه المفارقات الزمنية ، ومنها: الاسترجاع ، وهو تقنية يستطيع من خلالها المبدع الانحراف بالزمن نحو الماضي على العكس من الحاضر السردي الذي يسير نحو المستقبل ، ويمكن أن ” يطلق عليه الاستحضارات التي تبقى في جميع الأحوال ، وكيفما كان مداها خارج النطاق للمحكي الأول ” .
وتتمثل وظائف الاسترجاع ودواعيه في : التخفيف من وطأة الأحداث. فمما لا شك فيه أن الأحداث تعصف بشخصيات الرواية من تزاحمها وتكدسها ؛ فيلجأ الراوي إلى استرجاع بعض الذكريات علها تخفف من وطأة الأحداث. وإضاءة ماض الشخصية ” فالكاتب يحتاج إلى الاسترجاع كلما قدم شخصية جديدة على مسرح الأحداث ليقدم ماضيها وخلفيتها ” ، ومن ذلك على سبيل المثل في رواية شرف : شخصية الدكتور رمزي ، والذي استغرق فيه الاسترجاع الخارجي نحو ( 59 ) صفحة ، وقد استعرض فيه حياته بدءا من الطفولة ، ومرورا بالتحاقه بشركات الأدوية التي تنتمي إلى عالم الشركات متعددة الجنسيات الرأسمالي ، وانتهاء بسجنه إلى جوار شرف في الزنزانة. والبحث عن اللحظة المفقودة في الماضي ، والتي هي لحظة الحاضر نفسه ؛ فقد تكون لحظة الحاضر حدثا ما أو شخصية ما أو رائحة ما أو كلمة ما أو مكان ما ، حيث تعمل هذه العوامل على استثارة الذاكرة ؛ فتدفعها إلى الاسترجاع في صورة جديدة وفق معطيات اللحظة الحاضرة ، ووفق التأويل الجديد الذي يفرضه الواقع المتغير ، حيث ” تلعب الحواس دورا أساسيا في تحفيز الذاكرة لتتم عملية الاسترجاع ؛ فالرؤية البصرية لشخص ما أو شيء ما في الحاضر قد تدفع إلى استعادة الماضي ، كما أن الأصوات وكل ما يمكن أن يثير حواس الإنسان قد يعمل على استحضار الحدث الماضي ” . ومن ذلك على سبيل المثال في رواية برلين ( 69 ) : حيث تذكر الراوي ( صادق الحلواني ) خبر الأمس حينما رأى الأطفال الفلسطينيين ، والذي تناول استقبال مجموعة من الأطفال الفلسطينيين في معسكرات اللاجئين بالأردن ، ودعوتهم لزيارة برلين. وقد استغرق فيه الاسترجاع الداخلي نحو ( 7 ) سطور.
وتأسيسا على ما تقدم فإنه يمكننا القول: إن المفارقة الزمنية جاءت لتتماهى مع رغبات المبدع في استدعاء الماضي لأغراض فنية ، يساعده في ذلك طبيعة الزمن المرن الذي يتيح له أن يفرده ويطويه ، والذي يسمح له بأن يقتحم تخوم الماضي والحاضر والمستقبل والانتقال بينها في انسيابية ورفق . ويتبقى لنا أن نؤكد على أن علاقة المبدع بالواقع علاقة رفض وهي معقدة إلى حد بعيد ؛ لذا نجده مدفوعا نحو الماضي الأليف للائتناس به وهربا من الشعور بالضآلة والتهميش في الحاضر رجاء الاستراحة من عناء البحث عن إجابات للأسئلة الكلية النهائية التي تتعلق بالوجود وما بعد الوجود. وللحديث بقية…
1 تعليق
A
بالتوفيق يا دكتور حسام 🥰