عبادة الله وتحكيم شريعته لا يأتيان على الوجه الصحيح الا بعد التحرر من الخوف والتمكين فى الأرض ، ولما كان الاعتبار الإنسانى لا يقوم الا بالحرية بأن المسئولية القانونية الكاملة الصحيحة لا تقرر الا للاحرار . وتنتقص هذه المسئولية اذا انتقصت الحرية . وقد جعل الإسلام الشورى – وهى من مقومات الحرية – علامة المجتمع المؤمن ، وقرنها بالصلاة ، يقول تعالى : ( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ) . وأمر الله رسوله بأن يشاور صحابته ( وشاورهم فى الأمر ، فاذا عزمت فتوكل على الله ) . وقد افترض الإسلام حدوث الخلاف بين الحاكم والمحكوم كنتيجة حتمية للحرية التى يتمتع بها معتنقوه ، فرسم للمسلمين أقوم الحلول لذلك ، وهو تحكيم كتاب الله وسنة رسوله ، وفى ذلك يقول الله تعالى : ( فان تنازعتم فى شىء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، ذلك خير وأحسن تأويلا ) . وجعل الإسلام مقاومة الجور والظلم فريضة ، لأنهما من أشق الأمور التى تهدر الحرية . ولابد أن تكون الحرية مكفولة للخصوم ، لا للانصار فقط ، فان امتحان الحرية العسر هو الصبر على ممارسة الخصوم لها . بقيت شبهتان قد يتخذ منهما أعداء الإسلام سهاما يصوبونها إلى الحرية فى الإسلام . لقد قدس الإسلام الحرية أعظم تقديس . وان من يتدبر تعاليمه ويتأمل محكم آياته يدرك فى غير عسر أنه يمقت الاكراه والضغط أشد مقت ، ولو كان ذلك طريقا الى حمل الناس على اعتناق الإسلام نفسه . يقول الله تعالى (لست عليهم بمسيطر ) ، ويقول ( لا اكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى ) ويقول (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) ، ويقول جل شأنه : ( ما على الرسول الا البلاغ ) . وانتهت العصور القديمة والوسطى بما فيها من جهالة وبطش وقسوة وظلم ، ولكن هل استردت الإنسانية كرامتها بعد ذلك ؟ كلا .. والإسلام العظيم يقرر الحرية على اختلاف ألوانها ويحميها ، فحرية التملك والتصرف فى المال مقررة فى الإسلام للرجل وللمرأة على السواء كذلك حرية العمل وحرية الفكر ، وحرية اعتناق المبادىء ، وحرية الانتقال وحرية الاجتماع .. كل هذه الحريات وأمثالها مصونة فى الإسلام بشرط ألا تضر بمصالح المجموع الذى ترعاه شريعته وتحميه سلطة دولته . وشريعة الإسلام لا تجيز التعسف فى استعمال الحق ، يقول النبى الكريم صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ، ولا ضرار ، ولا استئثار ، ولا غلول ) . وقد صان الإسلام حرمات الإنسان الشخصية بالنسبة لسلطات الدولة نفسها ، فلا جريمة ولا عقوبة الا بنص القانون ، يقول تعالى ( عفا الله عما سلف ) . والمتهم برىء الى أن تثبت ادانته . والشريعة الإسلامية تقرر ضمانات فى الاستدلال والتحقيق والمحاكمة ، ولا تميل الى التأثيم والتجريم بغير دليل قاطع . يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( ادرأوا الحدود بالشبهات ) ، ويقول عليه السلام : ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فان وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله ، فان الامام لأن يخطىء فى العفو خير من أن يخطىء فى العقوبة . فهذا موقف الإسلام العظيم من الحريات بأنواعها ، ومنه ندرك أنه قد كفلها جميعا ، ووفر للفرد كرامته وانسانيته وعزته بهذه الكفالة .