ساقني القدر لحضور جلسة من الجلسات العرفية بإحدي القري ,تدور الجلسة حول طرف أتلف له جارُه بضائع تجارته التي تقدر بالملايين, الطرف المعتدَى عليه حصل على أحكام بالسجن علي الافراد المعتدين, الطرف المعتدي بطريقة ملتوية شارك فيه مرتشون وحصل علي حكم غيابي بسجن المعتدى عليه! أهل الخير عقدوا لجنة للصلح بينهم، وتداولت اللجنة مشوراتها وظننت أن يخرج حكمها علي أقل التقديرات بالتنازل عن القضايا وربنا يعوض المتضرر علي ما فقده، ويعود الوئام بين الطرفين! وبعد ساعات طوال تمخَّض الجبل وولد فأرا! حيث أعلنت اللجنة قرارها بتغريم المعتدَى عليه بمبلغ كبير جدا يدفعه للمعتدي! ويتنازل كل منهما عن قضاياه! نزل هذا القرار على رأسي كالصاعقة، شُلَّ تفكيري! وأُلجم لساني عن الكلام! وأظلمت الدنيا أمامي! فلم أعد أبصر ما تعلّمته وما تربّينا عليه من فضيلة الحق والعدل وسمو الأخلاق علي القوة، أخرجني من شرودي أحد المحكّمين ووضعني علي حقيقة لم تكن من مفردات حياتي قال لي: الطرف المعتدي قوّتهم باطشة ولا يعرفون ربّهم والطرف المعتدى عليه مازال يعيش علي سمو الاخلاق والفضيلة، ولذلك أرادت اللجنة المحكمة أن تجنِّب المعتدَى عليه سوء المعتدي! ويجنّبه سوء منقلبهم!
كانت هذه الكلمات التي أراد هذا المحكّم أن يزيل عني غشاوة التوهان لكنه صدمني أكثر فقد نمي في روعي يقين أن القوة تسبق الحق، تسبق العدل، وقد تسبق القرآن!!
كنت أتصور دائما أن الجلسات العرفية أكثر عدلا وأكثر حكمة وأعمق في التوافق! كنت أتصور أن قيمة العدل دائما هي خطواتهم والحكمة هي فراستهم، ولكن تبخّر هذا اليقين وهذا المفهوم، وتحوّلت هذه الجلسات لمداهنة الظالم وكسر ظهر المظلوم! والحجة أن الظالم “يده بطشة” وأن المظلوم رجل طيب!! ما كنت أتصور أن الزمن وضع القيمة في درجة أدنى من القوة، أن الزمن يضع القوة في مرتبة قبل القرآن!!
إذا وصل المجتمع الي هذا المسلك وهذا التصور فلابد لنا من دولة يدها أكثر بطشا حتي لو قيل عنها دكتاتورية، دولة يرتعد الظالم والمظلوم حينما يسمع اسمها، إذا وصل المجتمع الي هذه الحالة المخيفة فلماذا نبكي علي ارتفاع الأسعار وضيق المعيشة؟ فقد ضيقنا علي أنفسنا أبواب القيم والأخلاق والمثل الرفيعة؟ فحتما أن نرى أنفسنا نهبا لأنياب الغلاء وضنك العيش.
حاولت خروج نفسي بثوابتها الراسخة فهمست بين نفسي قائلا (لعن الله قوما أضاعوا الحق بينهم) فلعلها كلمة تمنع انهيار منظومة الأخلاق التي تربّينا عليها.