إن الخسائر التي تتكبدها أوكرانيا فادحة بالفعل. ومن شأن العقوبات غير المسبوقة على روسيا أن تضعف أنشطة الوساطة المالية والتجارة، مما سيفضي حتما إلى حدوث ركود عميق هناك. وانخفاض سعر صرف الروبل يذكي التضخم، ويفضي إلى مزيد من تراجع مستويات معيشة السكان.
وتمثل الطاقة القناة الرئيسية لانتقال التداعيات في أوروبا حيث تشكل روسيا مصدرا أساسيا لوارداتها من الغاز الطبيعي. وقد يترتب على ذلك أيضا حدوث انقطاعات أوسع نطاقا في سلاسل الإمداد. وستسفر هذه الآثار عن ارتفاع التضخم وإبطاء التعافي من الجائحة. وسوف تشهد أوروبا الشرقية ارتفاعا في تكاليف التمويل وطفرة في تدفق اللاجئين، حيث استوعبت معظم اللاجئين البالغ عددهم 3 ملايين نسمة الذين فروا من أوكرانيا مؤخرا، حسب ما أوضحته بيانات الأمم المتحدة.
وقد تواجه الحكومات الأوروبية كذلك ضغوطا على المالية العامة من زيادة الإنفاق على تأمين مصادر الطاقة وميزانيات الدفاع.
وبينما تُعد الانكشافات الخارجية للأصول الروسية الآخذة في الهبوط محدودة بالمعايير العالمية، فإن الضغوط على الأسواق الصاعدة قد تزداد إذا سعى المستثمرون إلى البحث عن ملاذات أكثر أمانا. وبالمثل، تتسم الانكشافات المباشرة في معظم البنوك الأوروبية لروسيا بأنها محدودة ويمكن التعامل معها.
يُرجح أن تواجه المنطقة آثارا متوالية فادحة من ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة وضيق الأوضاع المالية العالمية. ففي مصر، على سبيل المثال، تأتي 80% من وارداتها من القمح من روسيا وأوكرانيا، كما أنها مقصد سياحي يحظى بإقبال كبير من كلا البلدين، وسوف تشهد كذلك انكماشا في نفقات زائريها. ومن شأن السياسات الرامية إلى احتواء التضخم، كزيادة الدعم الحكومي، أن تفرض ضغوطا على حسابات المالية العامة الضعيفة بالفعل.
وإضافة إلى ذلك، فإن تفاقم الأوضاع المالية الخارجية قد يحفز تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج ويضيف إلى التأثيرات المعاكسة على النمو في البلدان ذات مستويات الدين المرتفعة والاحتياجات التمويلية الكبيرة.
وربما أدت الأسعار الآخذة في الارتفاع إلى زيادة التوترات الاجتماعية في بعض البلدان، كتلك التي لديها شبكات أمان اجتماعي ضعيفة، وفرص عمل قليلة، وحيز محدود للإنفاق من المالية العامة، وحكومات تفتقر إلى الشعبية. وفي هذه المرحلة، حلت المواجهات التي تهيمن عليها المدافع محل معارك الدبابات. تشن القوات الروسية الهجمات في بعض المناطق، من بينها منطقة لوهانسك الشرقية، حيث تغلبت أخيرا على آخر المعاقل الأوكرانية المتبقية في مدينة ماريوبول الجنوبية. بعد إعادة توجيه قواتها إلى الشرق والجنوب الشرقي، يبدو أن موسكو اندفعت لشن هجمات تدريجية، حيث استخدمت أحيانا القوات التي تراجعت من كييف، بدلًا من انتظار الوقت المناسب وحشد قوة واسعة النطاق. وقال أوبراين: “يبدو أن التقدم الروسي سيتلاشى نسبيا قريبا. في مرحلة ما سيوقفون التقدم، والسؤال هو: هل سيتمكن الأوكرانيون من صدهم؟”.ورأى محللون أن الأسلحة الغربية في هذه المرحلة ذات أهمية كبيرة، وإذا تقدم الأوكرانيون بالفعل، فإن السؤال التالي هو أين سيتوقفون، بحسب ما نقلته “وول ستريت جورنال”.وسيكون الحد الأدنى لأهداف أوكرانيا خطوط السيطرة التي كانت في 23 فبراير/شباط، أي اليوم الذي سبق الحرب الروسية. وسيترك ذلك موسكو تسيطر على جيبين في دونباس وشبه جزيرة القرم، التي ضمتها عام 2014.
إنه “إذا نجحت أوكرانيا، سيمثل التراجع الروسي تحديا سياسيا للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ويغريه بدفع القوات الروسية إلى ما هو أبعد من جيوب دونباس والقرم.
وتعتبر العمليات الهجومية أكثر صعوبة من الدفاعية، وسيكون التقدم بالمناطق التي لطالما تحصن فيها الروس، دونباس والقرم تحديدا، أمرًا طموحا بالنسبة لأوكرانيا. ومن المتوقع أن يسجل اقتصاد أوكرانيا انكماشاً بنسبة 45.1% هذا العام، على الرغم من أن حجم هذا الانكماش سيتوقف على مدة استمرار الحرب وشدتها. أما الاقتصاد الروسي، الذي تضرر بفعل تعرض روسيا لعقوبات غير مسبوقة، فقد دخل بالفعل في حالة ركود عميق، حيث يُتوقع أن ينكمش الناتج بنسبة 11.2% في عام 2022.
“إن حجم الأزمة الإنسانية التي تسببت بها هذه الحرب صاعق. فالغزو الروسي وجه ضربة هائلة للاقتصاد الأوكراني، وألحق أضراراً جسيمة بالبنية التحتية. وتحتاج أوكرانيا إلى دعم مالي هائل على الفور، إذ تكافح من أجل الحفاظ على اقتصادها، وعلى مواصلة الحكومة عملها لدعم المواطنين الأوكرانيين الذين يعانون من الوضع الصعب الناجم عن الحرب ويتأقلمون معه.”
لقد زادت الحرب من المخاوف المتصاعدة من حدوث تباطؤ عالمي حاد، وارتفاع مستويات التضخم والديون، وازدياد مستويات الفقر. وقد انتقل الأثر الاقتصادي من خلال قنوات متعددة، تضمنت أسواق السلع الأولية والأسواق المالية، وروابط التجارة والهجرة، والأثر السلبي على الثقة.
وتلحق الحرب حالياً أضراراً شديدةً أيضاً بالاقتصادات الصاعدة والنامية في منطقة أوروبا وآسيا الوسطى، التي كانت تتجه بالأساس نحو منعطف تباطؤ النشاط الاقتصادي هذا العام بسبب التأثيرات المستمرة للجائحة. وبالإضافة إلى روسيا وأوكرانيا، من المتوقع أن تدخل بيلاروسيا وجمهورية قيرغيز ومولدوفا وطاجيكستان في حالة ركود هذا العام، في حين تم تخفيض توقعات النمو في جميع الاقتصادات بسبب تداعيات الحرب، والنمو الأضعف من المتوقع في منطقة اليورو، والصدمات التي ضربت أسواق السلع الأولية والتجارة والتمويل. تمثل روسيا وأوكرانيا مصدراً لنحو 40% من واردات القمح في المنطقة، ونحو 75% أو أكثر في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، كما تعد روسيا وجهة تصدير رئيسية للعديد من البلدان، في حين تقترب قيمة التحويلات من روسيا من 30% من إجمالي الناتج المحلي في بعض اقتصادات آسيا الوسطى (جمهورية قيرغيز وطاجيكستان).
“لقد أظهرت الحرب الأوكرانية والجائحة مرة أخرى أن الأزمات يمكن أن تتسبب في أضرار اقتصادية واسعة النطاق، وتؤدي إلى حدوث انتكاسات في المكاسب التي تحققت على مدى سنوات على صعيدي التنمية ونصيب الفرد من الدخل. وينبغي للحكومات في المنطقة تقوية التدابير الوقائية على صعيد الاقتصاد الكلي، ومصداقية سياساتها لاحتواء المخاطر والتعامل مع التجزؤ المحتمل لقنوات التجارة والاستثمار؛ وتقوية شبكات الأمان الاجتماعي من أجل حماية الفئات الأكثر احتياجاً والأولى بالرعاية، ومن بينهم اللاجئون؛ بالإضافة إلى عدم فقدان التركيز على تحسين كفاءة استخدام الطاقة لضمان مستقبل مستدام.” تمثل الأزمة الإنسانية الشديدة التي تسببت بها الحرب الموجة الأوضح من بين موجات الصدمات العالمية الأولية، ومن المرجح أن تكون من بين الآثار الأكثر استمرارية الناجمة عن الصراع، إذ تشير التوقعات إلى أن موجة اللاجئين من أوكرانيا إلى البلدان المجاورة ستجعل الأزمات السابقة تبدو ضئيلة مقارنة بها. وعلى ذلك، سيكون دعم البلدان المضيفة ومجتمعات اللاجئين أمراً بالغ الأهمية. وفي هذا الصدد، يُعد البنك الدولي برامج دعم تشغيلي للبلدان المجاورة حتى يتسنى لها تلبية احتياجات التمويل المتزايدة بسبب تدفقات اللاجئين.
ويؤكد الارتفاع الحاد في أسعار النفط العالمية الذي تسببت به الحرب بدوره على الحاجة إلى أمن الطاقة من خلال تعزيز إمدادات الطاقة من المصادر المتجددة، والإسراع من وتيرة عملية وضع تدابير كفاءة استخدام الطاقة وتنفيذ هذه التدابير على نطاق واسع. من شأن هذه المساندة التي تُصرف على أساس عاجل أن تساعد على دفع أجور العاملين في المستشفيات، والمعاشات التقاعدية لكبار السن، والبرامج الاجتماعية للفئات الأكثر احتياجاً والأولى بالرعاية، وذلك في إطار حزمة المساندة البالغة 3 مليارات دولار التي تُعدها مجموعة البنك الدولي لأوكرانيا على مدى الأشهر المقبلة. وقد تسبب الغزو فعلياً في حدوث أكبر أزمة للاجئين في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. ومن ثم، تنظر مجموعة البنك الدولي حالياً في كيفية مساندة اللاجئين ودعمهم في البلدان المضيفة.