تعد مسألة السيادة الشعبية باعتبارها فكرة فلسفية قديمة و متجددة في الآن ذاته، مسلكا هاما في ترسيخ مسار الديمقراطية في أي كيان أو دولة مستقلة. و قد تبنت عديد الدساتير الديمقراطيات المعاصرة، فكرة السيادة الشعبية كمنطلق يعبر عن جوهر تحقيق الإرادة الشعبية و يمنح السلطة أو النظام في الدولة الشرعية التي تعكس وتجسد مبادئ قيام دولة القانون،
ومن هذا المنطلق فقد كرس النظام الدستوري ا بدوره لمبدأ السيادة الشعبية لأهميته عبر كامل الدساتير التي تم تقريرها، معترفا للشعب بحقه في السيادة التي يمارسها وفق آليات متعددة، و من هنا يبرز هدف هذه الدراسة التي تسعى إلى تحديد مفهوم السيادة الشعبية كمبدأ دستوري و كذا آليات تطبيقها عمليا بما يحقق أهم متطلبات دولة الحق والقانون.
كرست الديمقراطية المباشرة الصورة المثلى لمفهوم ممارسة سيادة الشعب ، ولكن صعوبة تحقيقها بعد تطور وظائف الدولة ، تطلب تطبيق نظام آخر يدعى الديمقراطية غير المباشرة، حيث يقوم الشعب بممارسة سيادته بانتخاب ممثلين له لتولي شؤون الحكم بالإرادة المسندة لسلطات الدولة في اطار الدستور والقانون باسم صاحب السيادة الفعلي، من خلال نظرية سيادة الأمة ونظرية سيادة الشعب أمام خاصية السيادة التي ترتب تساوي الدول قانونا في المجتمع الدولي، وسنحاول بحث مدلول نظريتي الأمة والشعب على ممارسة سيادة الأفراد داخل الدولة.
السيادة بمفهومها المعاصر فكرة حديثة نسبياً مرت بظروف تاريخية، حيث كان السائد أن الملك أو الحاكم يملك حق السيادة بمفرده، ثم انتقلت إلى رجال الكنيسة فكانت سنداً ودعماً لمطامع البابا في السيطرة على السلطة، ثم انتقلت إلى الفرنسيين ليصوغوا منها نظرية السيادة في القرن الخامس عشر تقريباً أثناء الصراع بين الملكية الفرنسية في العصور الوسطى لتحقيق استقلالها الخارجي في مواجهة الإمبراطور والبابا, ولتحقيق تفوقها الداخلي على أمراء الإقطاع
وارتبطت فكرة السيادة بالمفكر الفرنسي “جان بودان” الذي أخرج سنة 1577م كتابه: الكتب الستة للجمهورية، وتضمن نظرية السيادة
وفي 26 أغسطس 1879م صدر إعلان حقوق الإنسان الذي نص على أن السيادة للأمة وغير قابلة للانقسام ولا يمكن التنازل عنها، فأصبحت سلطة الحاكم مستمدة من الشعب, وظهرت تبعاً لذلك فكرة الرقابة السياسية والقضائية لتصرفات السلطة التنفيذية
وقد قرر ميثاق الأمم المتحدة مبدأ المساواة في السيادة بأن تكون كل دولة متساوية من حيث التمتع بالحقوق والالتزام بالواجبات مع الدول الأخرى الأعضاء في الأمم بغض النظر عن أصلها ومساحتها وشكل حكومتها، إلا أن الدول الخمس العظمى احتفظت لنفسها بسلطات, ناقضة بذلك مبدأ المساواة في السيادة وقد حل محل كلمة السيادة في العرف الحديث لفظ استقلال الدولة
بالتالي فالظروف التي نشأت بسببها نظرية السيادة وغيرها من النظريات ليست كالظروف التي مرت بها الدولة الإسلامية، فلا يمكننا أن نأتي بتلك النظريات ونطبقها بكل ما فيها على الدولة الإسلامية, أو أن نُعد عدم وجودها لدينا نقصاً، فقد توجد لدينا الفكرة ولكن بشكل آخر، أو لا توجد أصلاً استغناءً عنها بأنظمة وقواعد عامة في الشريعة الربانية ليست عندهم.
السيادة في الدولة الإسلامية:
بعد معرفة مفهوم السيادة ونشأتها، بقي معرفة من يملك السيادة في الدولة الإسلامية، هل الحاكم أو الأمة أو غيرهم، حيث ذهب البعض أن السيادة تكون للأمة واستدل بالنصوص التي تخاطب الأمة بمجموعها وبمبدأ الشورى في الإسلام وهذا مردود لأمرين: الأول: لأنه يعني إمكان التنازل عن السيادة، والثاني: لأن السيادة سلطة غير مقيدة.
فالأدلة الشرعية حددت الإطار العام لكافة التصرفات سواء أكانت صادرة من الحكام أم المحكومين؛ فالكل خاضع لها وملزم بطاعة أحكامها، فالشريعة حاكمة لغيرها ولا يجوز تجاوزها أو إلغاؤها أو تبديلها أو تعديلها
يقول تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا}[19]، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} وقال صلى الله عليه وسلم: “السيد الله تبارك وتعالى “فالسيادة في الدولة الإسلامية لله عز وجل, فالتشريع له وحده سبحانه, وهذه السيادة متمثلة في شريعته كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والدولة إنما تستمد سيادتها من خلال التزامها بالأحكام الشرعية وتنفيذها لها وللأمة بعد ذلك حق تولية الإمام ومحاسبته وعزله ومراقبة السلطة الحاكمة في التزامها حدود الله وليس لها ولا للسلطة الحاكمة الحق في العدول عن شريعة الله “فلا عبادة إلا لله. ولا طاعة إلا لله ولمن يعمل بأمره وشرعه، فيتلقى سلطانه من هذا المصدر الذي لا سلطان إلا منه. فالسيادة على ضمائر الناس وعلى سلوكهم لله وحده بحكم هذا الإيمان. ومن ثم فالتشريع وقواعد الخلق، ونظم الاجتماع والاقتصاد لا تتلقى إلا من صاحب السيادة الواحد الأحد.. من الله.. فهذا هو معنى الإيمان بالله.. ومن ثم ينطلق الإنسان حراَ إزاء كل من عدا الله، طليقًا من كل قيد إلا من الحدود التي شرعها الله، عزيزًا على كل أحد إلا بسلطان من الله”
وقد ذهب البعض إلى تقسيم السيادة إلى قسمين أحدهما: السيادة المطلقة وهي لا تكون إلا لله عز وجل، والثاني: السيادة النسبية وهي تكون للأمة ضمن حدود أحكام الشريعة الإسلامية ولعل الأنسب أن يقال: إن السيادة لشريعة الله, وهذا لا يسلب الأمة الحق في التخريج على أصول الشريعة والاجتهاد في تطبيق أحكامها على النوازل، وبالتالي فالسيادة لله وحده, أما سلطة الحكم فهي مفوضة إلى الأمة تمارسها في حدود السيادة
“فإذا كانت بعض الدول الحديثة تعتز بأنها تلتزم بسيادة القانون والتمسك بالدستور، فإن الدولة الإسلامية تلتزم بالشرع، ولا تخرج عنه, وهو قانونها الذي يلزمها العمل به والرجوع إليه، حتى تستحق رضوان الله وقبول الناس. وهو قانون لم تضعه هي، بل فرض عليها من سلطة أعلى منها، وبالتالي لا تستطيع أن تلغيه أو تجمده إلا إذا خرجت عن طبيعتها ولم تعد دولة مسلمة”
فنظرية السيادة في الإسلام ليس لها الطابع السلبي الذي عُرفت به نظرية السيادة بوجه عام؛ لكون الدولة الإسلامية لا سيادة فيها على الأمة لفرد أو طائفة؛ فالأساس الذي تبني عليه نظامها هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وبهذا تتجاوز نظرية السيادة في الإسلام المشكلات والتناقض التي وقعت فيها نظرية السيادة الغربية
فـ”السيادة العليا والسلطان المطلق هو لما جاء من عند الله – عز وجل – لا غير، وإن المنازعة في ذلك كفر وشرك وضلال وهذه المظاهر للسيادة سواء أكانت في الخارج أم الداخل أقرها الإسلام وفقاً للأحكام الشرعية ، فعلى صعيد السيادة الخارجية ينبغي أن تكون للدولة الإسلامية هيبتها ومكانتها بين الدول وألا تتبع أو تخضع لغيرها، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}
، “أي: في الدنيا بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية, وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة… وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على أصح قولي العلماء, وهو المنع من بيع العبد المسلم للكافر لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال”. فالآية تحرم منح الكافر أية سلطة على المسلم، فكيف الحال إن تسلطت دولة كافرة على دولة مسلمة!! ومسألة تطبيق الأحكام الإسلامية على المسلمين والذميين أينما وجدوا ما هي إلا مظهر من مظاهر سيادة الدولة الإسلامية على رعاياها