نستعرض اليوم تقريرًا اقتصاديًا أصدرته «جولدمان ساكس»، إحدى أكبر مؤسسات الخدمات المالية والاستثمارية حول العالم بميزانية بلغت ٢.٥ تريليون دولار في ٢٠٢١م، وقد أحدث التقرير ضجة كبرى في الأوساط الاقتصادية ودوائر البورصات وأسواق المال والأعمال، إذ تطرقت خلاله المؤسسة لما أسمته «الأسواق الأوروبية المبتلاة بالركود»، حيث أظهر التقرير كم الامتيازات التي يتمتع بها السوق الأمريكي عن نظيره الأوروبي، ويقول محللو «جولدمان ساكس» أن الولايات المتحدة وإن كانت تتجه قليلًا نحو الركود، لكن النظرة الاستثمارية نحو (أوروبا) تبدو أسوأ بكثير بسبب تقلص وضعها الائتماني وتحول رجال الأعمال منها إلى الخليج والولايات المتحدة وغيرها، وأن إحصاءات النمو في الولايات المتحدة وإن تأثرت مؤخرًا بفعل التضخم إلا أن الوضع الاقتصادي في أوروبا كارثي وغير مطمئن على الإطلاق!
ليست هذه التحليلات وليدة اليوم، لكن في شهر يوليو الماضي كان البنك الاستثماري الأمريكي قد أصدر بيانًا أوضح فيه توقعاته ببدء الركود في المملكة المتحدة خلال النصف الثاني من العام الحالي، وفي أغسطس توقع خبراء الاقتصاد بالاتحاد الأوروبي «ركودًا قويًا» يبدأ في المملكة المتحدة لينتقل بعدها إلى يؤدي إلى ألمانيا وإيطاليا ومختلف دول أوروبا خلال الربع الرابع من عام ٢٠٢٢م، وبعدها بالفعل أعلنت «غرف التجارة البريطانية» أن البلاد قد دخلت في حالة ركود تسبب في ارتفاع ملحوظ بأسعار الطاقة وانخفاض الإنفاق الاستهلاكي للمواطنين، ولعل هذه الكارثة حلت بعد قرار روسيا تحجيم إمداداتها من الغاز الطبيعي إلى الدول الأوروبية، وما تبع ذلك من توقف المصانع وخطوط الإنتاج المعتمدة على الطاقة بشكل كبير.
اليوم وحتى لحظة كتابة هذه المقالة، يعاني الأوروبيون من ارتفاع تكاليف المعيشة وزيادة مُبالَغ فيها بقيمة فواتير الطاقة والسلع الغذائية والمنتجات الاستهلاكية ومصاريف الدراسة والتنقلات والمواصلات العامة، بل ووصل الأمر أن بعض المدارس الإنجليزية باتت تخير أولياء الأمور بين تقديم وجبة غذاء مناسبة لأطفالهم وبين تدفئة الفصول، ومن المتوقع أن تتزايد أسعار الطاقة في أوروبا إلى ٨٠% بحلول نهاية العام الجاري؛ الأمر الذي قلل كثيرًا من قدرة المواطن على الإنفاق وتداول العملات بسلاسة، وعليه تقلصت فرص العمل والإنتاج…
وما زاد ريبة المستثمرين، قرار مدير «صندوق التحوط الأمريكي» رفيع المستوى «راي داليو» بتداول ما قيمته ١٠.٥ مليار دولار أمريكي في البورصة الأمريكية بعد سحبها من شركات وبورصات أوروبية، مراهنًا على هذا المبلغ الضخم بمنتهى الثقة، مؤكدًا عبارته الشهيرة: «إن الأسهم الأمريكية تمثل رهانًا أفضل من نظيرتها الأوروبية»؛ وقد أدت كل هذه الظروف لتسجيل تقييمات استثمارية سلبية للسوق الأوروبية وجعلت الكثير من رجال الأعمال يغيرون بوصلة نشاطهم صوب أمريكا رغم ما تعانيه هي الأخرى من تضخم لكن الأمر هناك يعتبر جنة منعمة مقارنةً بالوضع في أوروبا.