تهتم كافة دول العالم بمكافحة الفساد منذ عقدين تقريبا ونتيجة لإبرام العديد من الاتفاقيات الدولية وتأثر العديد من دول العالم بأضراره التي تؤدى إلى تدهور المجتمعات من النواحي الإدارية والاقتصادية والسياسية، لما يمثله الفساد من انتهاك للقانون والخروج على القيم والقواعد الأخلاقية السليمة للمجتمع، وينقسم الفساد في أي مجتمع إلى فساد الحاجة Corruption of Need، وفساد الجشع Corruption of Greed، وتحت هاتين الصورين تظهر اشكال عديدة للفساد ومتنوعة منها الرشوة والمحسوبية والابتزاز والاكراه والاختلاس والتواطؤ علاوة على المحاباة أو التمييز وما يتضمنه ذلك من تهاون في تطبيق معايير الكفاءة واستبدال المعايير الموضوعية بمعايير شخصية؛ ولما كان الفساد ظاهرة متشعبة ومعقدة وتختلف وسائله في الزحف داخل المجتمعات وإعادة انتاج نفسه فإن سياسة مواجهته ليست باليسيرة، وفي هذا الإطار تتعدد الحلول التي تبنتها الدول لمكافحة الفساد بكافة اشكاله فبعض الدول تبنت وضع استراتيجيات وطنية لمئات من المقاييس الإدارية والقانونية لقياس مستوى الفساد في مختلف أنشطة الدولة للوصول إلى سبل لحصاره ومكافحته، ودول أخرى تبنت سياسة تهدف إلى تعزيز الشفافية والنزاهة وتعظيم المساءلة في النظام الإداري للدولة؛ بينما نجد دول آخري تبنت وضع خطط لتطوير البنية التشريعية ومواءمتها مع المعاهدات والاتفاقيات الدولية في هذا الشأن.
يعتبر الفساد وغياب الشفافية والنزاهة الإدارية ظاهرة متعددة الأوجه ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية، ويتعارض ويصطدم الفساد بعدد من المفاهيم منها الشفافية الإدارية:” التي يقصد بها توافر المعلومات التي تتعلق بالسياسات والنظم والقوانين والقرارات واللوائح لكافة المواطنين”، بالإضافة إلى المساءلة والتي يقصد بها:” مسئولية الموظفين عما يقترفونه من أعمال بالمخالفة للقوانين واللوائح والقرارات الإدارية”؛ ونظرا لأنه من مظاهر التخلف الإداري في الوطن العربي بشكل عام ما يتعلق بالشفافية في وجود نقص شديد في الإحصاءات والمعلومات حول النشاط الإداري للدولة وحتى إن وجدت تلك الإحصاءات تكون قديمة وغير دقيقة، مع اصطدام الشفافية الإدارية بما يطلق عليه السر الوظيفي، مما يحجم من فرص مكافحة الفساد لأنه لا مكافحة حقيقة للفساد دون وجود شفافية إدارية وبيانات دقيقة متوافرة بشكل دوري وعصري ومواكب مما يتيح المساءلة القانونية والشعبية للمسئولين ويضعهم تحت رقابة مستمرة تتيح منع الفساد الإداري أو على الأقل تقليل خطورته والحد منها.
تتسابق الدول في إصدار قوانين تنظيم تدفق المعلومات حيث أصدرت ما لا يقل عن 86 دولة من دول العالم قوانين تنظم حرية تداول المعلومات؛ إلى ثلاثة أسباب: السبب الأول: ارتفاع المطالب بالديمقراطية التشاركية حيث أن الشعوب لم تعد تكتفي بتقبل الحكم الصادر من الأعلى، السبب الثاني: التكنولوجيا التي جعلت المعلومات أقرب بكثير مقارنة بحالها في الماضي، السبب الثالث: العولمة التي تزيد باستمرار من وعي الأشخاص بأوضاع غيرهم ممن يعيشون في مناطق آخري من العالم، مما يجعلهم يسعون لأن يتمتعوا بما يتمتعون به من حقوق
وسنحاول أن نوضح فيما يلي التنظيم القانوني للشفافية الإدارية في المواثيق والاتفاقيات الدولية وفي تطبيقات القضاء الدولي وفي مصر.
التنظيم القانوني للشفافية الإدارية في ظل الاتفاقيات والمواثيق الدولية: بدأت تظهر فكرة الشفافية الإدارية والحق في الحصول على المعلومة بداية من الدورة الأولي للأمم المتحدة عام 1946 عندما صدر القرار رقم (59/ 1) لينص على أنه: “لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة. وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود”، ثم جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 لينص في المادة (19) منه علي أن:” لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقصاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون التقيد بالحدود الجغرافية”، وقد ورد النص علي ذات الحق في المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر سنة 1966 والذي صادق عليه ما يزيد عن 150 دولة من بينهم غالبية دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا علي إن:” 1 – لكل شخص الحق في اعتناق الآراء دون مضايقة.2 – لكل إنسان الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين دونما اعتبار للحدود, سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها”، كما أنه يفهم من المادة (8، 9) من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد حث الدول على تدعيم منظومتها الوطنية لنزاهة والشفافية ومحاربة الفساد وفقا للمبادئ الأساسية لنظام الدول القانوني.
وعلى الرغم من أن فكرة حرية تداول المعلومات٬ كما هي مفهومة في الوقت الراهن٬ لم يكن قد تم الاعتراف بها ً في وقت إقرار الإعلان العالمي والعهد الدولي٬ أدت التطورات اللاحقة إلى الاعتراف بهذا الحق باعتباره متضمنا صياغة الضمانات الدولية للحق في حرية التعبير٬ وعلى وجه التحديد الحق في “استقاء” و”تلقي” المعلومات والأفكار، وقد أبرز مقرر الأمم المتحدة الخاص لحرية الرأي والتعبير توضيح نطاق الحق في حرية التعبير بموجب القانون الدولي. ففي تقريره السنوي لعام ٬1998 ذكر المقرر الخاص: “إن الحق في ً استقاء المعلومات وتلقيها ونقلها يفرض التزامًا إيجابيا على الدول لضمان الوصول إلى المعلومات٬ وخاصة فيما يتعلق بالمعلومات التي تحتفظ بها الحكومة بجميع أنواع التخزين ونظم الاسترجاع”، فالحق في الحصول على المعلومات التي تحتفظ بها السلطات العامة هو حق أساسي من حقوق الإنسان ينبغي أن يدخل حيز التنفيذ على المستوى الوطني من خلال التشريع الشامل (على سبيل المثال قوانين حرية الإعلام)، و على أساس مبدأ الكشف لأقصى٬ مما يؤسس الافتراض أن جميع المعلومات يمكن الحصول عليها ما عدا نطاق ضيق من الاستثناءات
وقد وافقت اللجنة الأمريكية لحقوق الإنسان على، إعلان البلدان الأمريكية لمبادئ حرية التعبير وهي الوثيقة الرسمية الأشمل حتى الأن في مجال حرية التعبير في منطقة البلدان الأمريكية والتي تعترف صراحة بحرية تداول المعلومات فنصت في الفقرة الرابعة منها على أن: ” يشكل الحصول على المعلومات التي تحتفظ بها الدولة حقًا أساسيًا لكل فرد، وتلتزم الدولة بضمان الممارسة الكاملة لهذا الحق ويسمح هذا المبدأ فقط بقيود استثنائية يجب أن يحددها القانون مسبقا، في حالة وجود خطر حقيقي وشيك يهدد الأمن القومي في المجتمعات الديمقراطية وترسيخ قيمة حرمة المال العام، والتأثير في السياسات العامة، وتعميق مفهوم التضامن الاجتماعي، ومساعدة الحكومة عن طريق الخبرات المبذولة، والمشروعات الطوعية على أداء أفضل للخدمات العامة، والحث على حسن توزيع الموارد وتوجيهها، وعلى ترشيد الإنفاق العام، وإبراز دور القدوة ،وبكل أولئك، تذيع المصداقية، وتتحدد المسئولية بكل صورها فلا تشيع ولا تمتنع، ويتحقق العدل والنصفة، وتتناغم قوى المجتمع الفاعلة فتتلاحم على رفعة شأنه والنهوض به إلى ذرى التقدم تناولنا في دراستنا دور الشفافية الإدارية في مكافحة الفساد الإداري، حيث أن الشفافية الإدارية تعد من أهم مبادئ الحكم الراشد، ومن منطلق هذه الأهمية نجدها حظيت باهتمام واسع في السنوات الأخيرة، وفي مختلف دول العالم التي تبنى ما يقرب من 90 دولة منهم الشفافية والنزاهة الإدارية في تشريعاتهم من خلال إصدارهم لتشريعات تنظم حق المواطنين في الحصول على معلومة، وأن تصبح الإدارة داخل الدولة إدارة داخل بيت من زجاج يسمح بمراقبة كل من فيه ، مما يؤسس لمكافحة الفساد الإداري في جل صوره، واضحت السرية الإدارية مجرد استثناء محدود في العالم الأن، وخلصنا إلى عدد من النتائج أهمها:
–العلاقة بين الفساد والشفافية هي علاقة عكسية، فكلما زاد الفساد قلت الشفافية، وكلما زادت معايير الشفافية في العمل الإداري قلت نسبة الفساد، فهناك علاقة عضوية بين المحاسبة والشفافية، فالشفافية لا يمكن أن تكون هدفًا بحد ذاته وإنما هي وسيلة من الوسائل التي تساعد في عملية المساءلة والمحاسبة، كما أن المساءلة والمحاسبة لا يمكن أن تتم بصورة مناسبة وفاعلة دون ممارسة الشفافية.
– تأتي الإدارة بالشفافية كأحد أهم أركان مقومات ومحاور نجاح التنمية المستدامة، لأنها توفر العمل في بيئة تتسم بالشفافية التامة فتؤدي إلى جودة الأداء البشري والمؤسسي وبالتالي المصداقية الإفصاح الوضوح المشاركة الشفافية.
–تحارب الشفافية الفساد بكافة صوره وأشكاله، حيث أن شفافية التشريعات وعدم قابليتها للتأويل يساعد في منع الانحراف، ويحد من إمكانية اختراقها، كما أن شفافية التشريعات تساعد في إزالة المعوقات، وتبسيط الإجراءات، الأمر الذي يمكِّن من زيادة الكفاية والفعالية.
– تساعد الشفافية في العمل الإداري جهة الإدارة في تكوين قاعدة بيانات ومعلومات تكون بمثابة ذاكرة ومرجع لها يضمن خلاصة تجارب سابقة تستطيع من خلال الرجوع إليها للوصول إلي أفضل الحلول لما يواجهها من مواقف مما يحقق للإدارة أهدافها بسهولة ويسر وفاعلية.