كما ننتشى بالفجر وشروق الشمس وتفتح الزهور وقدوم الربيع وولادة الأجنة نستقبل الأعمال الفنية الجديدة، فهى بشائر على حيوية الوطن وعفيته وتجديد الدماء فى شرايينه وعشق ناسه للحياة والمستقبل، وهذا ما استمتعنا به قبل عشرة أيام، فى أول مهرجان للأفلام القصيرة بأندية مصر قاطبة، وطبيعى جدا أن يبادر نادى هليوبوليس بالتجربة الفريدة لما له من مكانة اجتماعية.
والأفلام القصيرة ليست مجرد حكايات وإنما هى اشتباك مع الحياة، رسالة عميقة إلى جمهورها، تكثيف لقصة متكاملة فى دقائق معدودة لا تكفى لبناء التوتر والصراع والعقدة، هى أشبه بطلقة موجهة، يعنى شخصيات فاعلة ومؤثرة، تعبر فى لحظة عن كل انفعالاتها المخزونة، فما بالك لو كانت الأفلام المعروضة تدور حول الموضوع الأكثر إثارة وجدلا فى حياتنا المرأة والمجتمع.
وبالطبع نصفق لصناع المهرجان أنهم استهلوه بالاحتفاء بمرور مئة سنة سينما، على أول فيلم صامت فى تاريخ السينما المصرية, برسوم يبحث عن وظيفة، إنتاج عام 1923، من تأليف وإخراج محمد بيومي، والذى عرض فى حدود عشرين دقيقة، الفيلم وثيقة عظيمة الشأن عن فن جديد وعن زمن لم نره لكن قرأنا عنه كتابات متناقضة، ويحكى عن صديقين عاطلين فى غاية الفلس، هما برسوم والشيخ متولي، يدخلان إلى بنك أعلن عن وظائف خالية، فيتصور مدير البنك أنهما من رجال الأعمال القادمين للاستثمار، فيعزمهما على غداء فاخر، ثم يكتشف سوء التفاهم، فيطاردهما ويهربان منه إلى الشارع، وينامان على الرصيف، ليمسك بهما رجل البوليس كمشردين.
أغرب ما فى الفيلم أنه كشف أن بعضا من مشكلاتنا الحالية موروثة من أزمنة غارقة فى القدم، مثل إلقاء الزبالة فى الشارع، البطالة، التحايل على المعاش. ويشى الفيلم بموهبة بشارة واكيم المبكرة فى دور الشيخ متولي، وأيضا الممثل عادل حميد الذى لعب دور برسوم، والذى اختفى بعدها تماما.
وكان أول أفلام مهرجان المرأة والمجتمع (فى هذا الركن الصغير)، فيلم موجع لنا، عن تصرفاتنا، عن التنمر الذى نمارسه على بعضنا البعض، عن الاغتراب الذى نُدفع إليه لنتقوقع داخل ذواتنا، فالبطلة وحيدة أو قررت أن تكون وحيدة لها طقوسها الخاصة بين الكتب وعيدان البخور وأكواب القهوة وشبكة الإنترنت وانتظار هجرة إلى أمريكا، هروبا من مجتمع متنمر.
البطلة فى مشهد الافتتاح شبه غافية على كرسى فى بالكونة بيتها حاضنة كتابا شهيرا كان أيقونة مثقفى مصر فى ستينيات القرن العشرين وهو اللامنتمى للكاتب الإنجليزى كولن ويلسون، كتبه سنة 1956 وهو فى الخامسة والعشرين من عمره وقلب الدنيا صخبا وتساؤلا وقبولا ورفضا، فاللامنتمى هو إنسان مثقف يعيش فى عزلة وقلقا، لا ينتمى لمبدأ أو حزب أو عقيدة، ويشعر أن الاضطراب والفوضوية أكثر عمقا من الأسس الواهية التى تنهض عليها الحياة الإنسانية إذا حكمها منطق القطيع، هو ليس مجنونا أو معتوها، هو فقط أكثر حساسية من الآخرين، ومشكلته هى الحرية بمعناها الواسع.ويستعرض المخرج الواعى هشام على عبدالخالق مشاهد من الواقع، ليضع أيدينا على البيئة التى غربت بطلته وعزلتها، صور الأفغان وهم يتشعبطون بأجنحة طائرة مغادرة كابول هروبا من حكم طالبان، مقتل طبيبة فى حى السلام اقتحم الجيران شقتها وضربوها بزعم أنها ترتكب الرذيلة باستقبال شاب غريب فى بيتها، التنمر بابنة لاعب الكرة عمرو السولية لارتداء ابنته الطفلة مايوه على البحر، التنمر على ابنه أحمد زاهر بألفاظ فى غاية القبح..الخ.
حين تفشل الهجرة تحاول البطلة أن تنتحر، فكولن ويلسون يقول: إذا لم يستطع اللامنتمى أن يخلق قيما جديدة، فمن الافضل له أن ينتحر، لأنه سيكون منبوذا من المجتمع، ولن يناسب المجتمع أبدا، ولكنها تتراجع فى اللحظة الأخيرة، أى توجد سبل أخرى للمقاومة.
الفيلم الثانى دبلة سها، للمخرج أحمد رؤوف، مواجهة ذات صباح بين زوج وزوجة، لا يعانيان من أزمات مالية، بل هما فى قمة الطبقة الوسطي، يعيشان فى فيلا ذات حديقة بكومبوند، لكن لغة التفاهم بينهما مقطوعة، الفيلم لا يبحث عن الأسباب المتصاعدة أو التفاصيل التى أوصلتهم إلى العقدة, وإنما ينبهنا إلى خطورة الحوار الإنسانى المقطوع أو غير المكتمل، الذى ينتهى بكلمة واحدة طلقنى..وينزل الستار.
الفيلم الثالث بين أربعة حيطان للمخرج عدلى وهبة، لحظة مواجهة بين أفراد عائلة مأزومة كليا، الأب متسلط يغلف تسلطه بحنان لم يفلح فى إنقاذ الزوجة أو الأولاد من السقوط فى براثن الأزمة النفسية، وتنتهى المواجهة بين الحيطان الأربعة بذبح الابن المريض أباه متصورا أنه أراحه من المتاعب، عالم يصنع تعاسته بنفسه!.
الفيلم الرابع صابرة للمخرج أحمد عادل، اسم البطلة والموقف أيضا، فالبطلة مكسورة الجناح مع زوج متسلط عنيف مغتصب دفن أبوها براءتها معه وهى تشب للحياة، فتعودت الضعف والانصياع، وحين فكرت فى خلع دبلة الزواج لم تستطع.
وقد توقفت عند الفيلم الأخيرة حمام محشي، ليوسف العنتبلي، شاب 19 سنة، وهو فيلم عائلي، الفكرة للأم، الموسيقى للأب، التمثيل للجدة والأخ، والموسيقى للأب، وهو لحظة حوار بين جيل الحفيد وجيل الجدة، جيل الموبايل والإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعى والألعاب الإلكترونية، وجيل الذكريات والحكايات والماضى بكل ما فيه من علاقات اجتماعية وسياسية، ودار الحوار الممتع داخل مطبخ البيت والجدة تعد الحمام المحشى للعائلة، فيلم بسيط وجميل يكشف لنا التواصل والفجوات بين الأجيال. تحية خاصة لإدارة نادى هليوبوليس ومنظم المهرجان، فالفن أهم أدواتنا لمواجهة الأفكار المعتمة، فالعتمة يبددها نور الفن والحرية.