يولد بعض الأشحاص ، وخصوصا الإناث ، وبهن ضعف عصبى عام يتسبب عنه أزمات ومشاكل عائلية واجتماعية خطيرة . ومع نمو الطفلة والإهمال فى علاجها ينمو الداء ويستفحل ، سواء كان وراثيا أو مكتسبا ؛ ومن شأن الوالدين فى هذه الحالات تدليل الفتاة وإحاطتها بضروب العطف والحنان خوفا من اعتلال صحتها وانحراف مزاجها ؛ فتشب الصبية مدللة معدومة الشخصية ضعيفة الإرادة ، وتقع فريسة سهلة لأمراض الأعصاب من هيستريا وملاخوليا وغيرها . حتى إذا ما تزوجت وارتطمت بأسباب الحياة الحقة وواجهتها مشاكلها المتعددة وتضايقت منها ، ظهرت حيرتها وارتباكها فى تصريف الأمور ، وانتابتها الأوهام والهواجس ، الأمر الذى يؤثر على صحتها تأثيرا مباشرا . وبديهى أن الأطباء فى مثل تلك الحالات المزمنة لا يمكنهم شفاء المريضة فى يوم وليلة , بل لا بد لهم من دراسة حالتها الصحية والنفسية وتعقب المرض وأسبابه حتى يتم العلاج على أساس متين صحيح ، وهو غالبا يستغرق بضعة أسابيع أوشهور . ولكن لما كانت السيدة المريضة بأعصابها يتهيأ لها الموت بين حين وآخر ، ولذلك تبغى وتتمنى الشفاء العاجل بأى ثمن ،فإنها تهمل علاج الأطباء ؛ ولضعف شخصيتها وعدم ثقافتها وإصغاءها لما يلقى عليها من نصائح العجائز وخلافهن من أترابها وأهلها ، فإنها تسارع الى الجهة الأخرى التى تعتقد فيها قدرتها على شفائها بين غمضة عين وانتباهها . وتلجأ إلى ( الكودية ) لتصف لها حالتها ، وعلى ضوئها تبدأ فى علاجها والغريب فى أمر هؤلاء الكوديات أن تشخيصهم لمرض المصابة لا يخرج فى كل حالة ، بصرف النظر عن السن أو البيئة أو المركز الاجتماعى والثقافى.. نقول إن تشخيص المرض فى كل حالة هو واحد لا يتغير ؛ وهو أن السيدة المصابة ( ملبوسة بأحد العفاريت ) ، كما أن الدواء اللازم فى كل حالة هو القيام بحفلة (الــــزار ) لمراضاة هذا العفريت ! والمؤكد أن هذا الزار وما يجره من مساوىء ومخاز يستحيل أن يكون دواء ، أو طريقا مجربا لشفاء السيدة ( الملبوسة ) . والطريقة المتبعة فى علاج الكوديات أنها تبيت أثر المصابة ؛ وبما للكودية من الاتصالات بالمخلوقات الغير منظوره من جان وعفاريت وغيرها ، وذلك بالنسبة لطهارتها العالية التامة ، فإنها تدعى أنها ترى فى الأحلام مالا يراه الغير ، حتى إذا تنفس الصباح أقبلت على السيدة المصابة وأخبرتها بأن ( عليها عفريت ) ولا يذهب هذا العفريت إلا بالزار . وأهم ما تشترطه الكودية لإتمام العلاج أن لا تلجأ السيدة المريضة أبدا إلى الأطباء حتى لا تتكدر ( الأسياد ) !! . والذى يزيد حيرتنا أن العفريت فى جميع الحالات لا يخرج عن كونه ( شامى أو سودانى أو مغربى أو حبشى ) وهى البلاد التى لا تعلم أو لم تسمع غيرها حضرة الكودية ؛ وأما إذا كان العفريت ذا جنسية أخرى فإنه يكون فى هذه الحالة يهودياً ، ويغلق على الكودية ذكر جنسيته ، إذ لم نسمع أن إحداهن قالت إن هناك عفريتا بلجيكيا وغيره . وذلك لجهلها بتلك البلاد ، وأن محيط ثقافتها وبيئتها ( البلدى ) لا يعلم ولا يدرك إلا المحيط المحدود له . فإذا ما قامت المريضة بإعداد ضروريات الزار من ملبس ومأكل ومشروبات روحية ( فى حالة العفريت اليهودى ) حضرت الكودية ومعها الطبول والمزامير والدفوف ، وابتدأت الحفلة . والمريضة طول الوقت تهتز وتتمايل على نغمتها تارة ببطء وتارة بسرعة ، حتى توهن قوتها ، ومع ضعف أعصابها والمجهود الكبير الذى ستنفذه فى التمايل والترنح والاهتزاز بكل قوتها ترتبك إحساساتها وتفقد كل السيطرة وسلطان عليها ، وتقع فى غيبوبة . وتبدأ فى سؤال السيدة المصابة عن رغباتها ، وهى تجيب بمكونات صدرها بلهجة غير لهجتها المألوفة . لذلك يعلم المشتغلون بالأبحاث النفسية أن لكل فرد منا ، سواء كان رجلا أو سيدة عقلين : (1) العقل الواعى ، ووظيفته وقدرته محدودة محصورة ، وهو الذى نحيا به حياتنا اليومية العادية ، ويعلم ما يحيط بنا ، ويدرك ما جرى علينا فقط . (2) العقل الباطن ووظيفته وطاقته غير محدودة ، ويعمل هذان العقلان بالتناوب ، بمعنى أنه لا يعمل أحدهما إلا إذا خمد أو همد الآخر . وأقرب مثل أذكره لكم هو حالة النوم ، سواء كان طبيعيا أو صناعيا ؛ فكلنا نعلم أننا عند النوم يخمد عقلنا الواعى ، ويفقد كل سيطرة على الجسم ، فلا نحس ولا نسمع ولا نرى ، حتى إنه إذا استلقى أحدنا وبيده كتاب أو أية آلة وأخذه النوم ، فإن هذا الكتاب أو هذه الأداة تسقط من يده دون أن يشعر وفى حالة خمود العقل الواعى وبمجرد انعدام سيطرته علينا يهب العقل الباطن للعمل وينشط . وهو الذى يسبب لنا الأحلام ، ويذهب بنا من مكان إلى مكان . فيا حبذا لو تنبه الأزواج المساكين واتخذوا ( الكرباج ) علاجا لمثل تلك الحالات ؛ لأنه من رأيى هو العلاج الوحيد المضمون ، ولله فى خلقه شئون.