تحقيق : علي حفني درويش
قصص يومية يتداولها أهالى الصعيد والدلتا، وتنشرها وسائل الإعلام، تلخص مغامرات المهووسين بالثراء السريع من خلال البحث عن الآثار
بالغ طائلة تتداولها الحكايات تكفى لنقل شاب مطحون أو أب عاطل إلى الثراء الفاحش فى وقت قصير، حيث يباع تمثال صغير بملايين الجنيهات!
هذا الحلم الذى يسعى له كثيرون محفوف بالمآسى، حيث يلقى هؤلاء مصيرًا مؤلمًا خلف القضبان، نتيجة الخلافات على تقسيم «الكنز»، أو انهيار حفر التنقيب على رؤوسهم ويدفنون أحياء!
هذه «التجارة» التى تتم بعيدًا عن عيون القانون لا تخص أصحابها وحدهم، وإنما تمثل كارثة بكل المقاييس لأنها عملية سطو على تراث مصر وإرث المصريين الذى يتم تهريب أثمن كنوزه وبيعها بالمزاد فى العديد من دول العالم.
بخور ودماء وGPS.. لتسهيل عمليات التنقيب
ينتشر الباحثون عن المناطق التى تتواجد فيها الآثار فى كل مكان، من الإسكندرية إلى أسوان ومن سيناء إلى حلايب.
تتعدد الطرق والأدوات فى كل محافظة على حده، سواء كانت فى الطريقة أو الأسلوب المتعارف عليه، ابتداء من استخدام البخور والزئبق الأحمر مرورًا بالحفر وانتهاء بتقديم القرابين.
فى مدينة “الجيزة”، تنتشر ظاهرة “طلاسم الآثار” التى تساعد فى التعرف على أماكن الكنز المفقود عن طريق إشارات وعلامات ورموز مميزة لا يفهمها العامة من الناس، وفى الغالب تكون علامات محفورة أو بارزة على جدران الجبال أو أسقف المغارات، كما أن لها مدلولات يعلمها أصحاب الخبرة، ومن خلالها يتم الكشف عن اتجاه وعمق الخبيئة والمكان والمسافة، ولكل شكل معنى لا يعلمه إلا المنقبون.
أما محافظة المنيا، فإنها الأكثر شهرة فى التنقيب عن الآثار، حيث تتركز مناطق التنقيب والاتجار فى قرى بمركز بنى مزار، وأبرزها قرية البهنسا الأثرىة وقرى غرب مركز أبو قرقاص وعدد من قرى مركز ديرمواس ومنطقة الشيخ عبادة بمركز ملوى جنوب المنيا، ويتم التنقيب فيها بالحفر والطرق التقليدية.
وتشهد محافظة قنا، صرف مبالغ طائلة على البخور للبحث عن الآثار، ويتم أحياناً الاستعانة بخبراء وفنيين من محافظة الأقصر يحملون جهاز GPS الذى يزعمون أنه يكشف عما فى باطن الأرض نظير مبلغ ضخم.
وفى محافظة بنى سويف والتى ترتفع بها البطالة، أصبح البحث عن الآثار حلمًا يراود مئات الشباب، الذين يبحثون عادة ليلاَ ولكن بأسلوب بدائى ينتج عنه كوارث وخسائر فى الأرواح كانهيار الحوائط أو المنازل أو الممرات والسراديب على رؤوس القائمين على الحفر.
أما محافظة أسيوط، فتكثر فيها حوادث قتل الفتيات وخطف الأطفال، لرسم الطلاسم على أجسادهم للبحث عن الكنز، حيث تحتاج المقبرة فى بعض الأحيان إلى قتل شخص ونشر دمائه حسب اعتقادات الدجالين، أو التضحية بعدد من الأطفال، حيث إن لكل مقبرة أو كنز طريقة فتح وذلك حسب نوع السحر المستخدم فى تأمين المقبرة.
وكانت محافظة البحر الأحمر بعيدة عن أعين المنقبين قديمًا، إلا أنها فى الفترة الأخيرة توجهت الأنظار إليها، وبدأت رحلات “غوص” فى مياه البحر الأحمر بحثًا عن “كنوز غارقة” أو بقايا “أثرية” لم تصل إليها يد السلطات.
وتعتبر الشرقية والمنوفية والدقهلية والبحيرة كمثيلاتها من بقاع المحروسة، يتم التنقيب فيها عن طريق الاستعانة بأحد الدجالين الذين يشتهرون بالتعامل مع الجن أو الحراس.
فى السياق، يقول الدكتور السيد نجم أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر: “التنقيب عن الآثار أو الركاز تعتبر من الأمور التى تكلم عنها الفقهاء قديما وحديثا، إلا أن هذا الأمر تغيرت فيه الفتوى بتغير الزمان والمكان وتغير الدلائل والأحوال، فالمفتى قديمًا كان يجعل نصيبًا للشخص من هذا الركاز، إذا عثر عليه فى بيته أو ما يمتلكه لكن بالنظر إلى طبيعة هذه الفتوى نجد أن القانون وقتها أو الضوابط لم تكن تمنع ذلك، أما الآن فلإن القانون يعد هذا الأمر من الملكية العامة التى لا يحق لشخص أن يستأثر بها وحده، وعليه أصبحت التجارة فى هذه الآثار من الأمور الممنوعة شرعًا وقانونًا لأن الحاكم له الحق شرعًا أن يقيد المباح بناء على القاعدة الفقهية “أن حكم الحاكم يرفع الخلاف فى مسائل الاجتهاد”.
وأضاف “نجم”، أنه لا يجوز المتاجرة بالآثار أو التصرف فيها بالبيع أو الهبة أو غير ذلك من التصرفات ولو وجدها الإنسان فى أرض يملكها إلا فى حدود ما يسمح به وينظمه القانون مما يحقق المصلحة العامة.
السجن أو الموت.. فى انتظار عصابات الآثار
بات التنقيب عن الآثار وحلم الثراء السريع يسيطر على الجميع، خاصة أسفل المنازل القديمة فى المناطق التى تقع بمحيط المعابد والمتاحف المنتشرة فى ربوع مصر، عشرات يبذلون جهودًا مضنية لتحقيق أهدافهم، فالمصابون بهوس البحث عن الآثار لا يترددون لحظة فى تنفيذ الجرائم سواء القتل أو الخطف فى سبيل الحصول على الكنز وتحتل محافظات الصعيد مركزًا متقدمًا فى عدد من ألقى القبض عليهم فى هذه الجرائم المحرمة.
فى شهر أكتوبر الماضى ألقت مباحث مركز شرطة شبين القناطر القبض على 8 أشخاص، خلال قيامهم بأعمال الحفر والتنقيب عن الآثار بمنطقة متاخمة لمنطقة المقابر الأثرىة بالتل البحرى التابعة لدائرة مركز شرطة شبين القناطر، وجرى ضبط الأدوات المستخدمة فى الحفر وضبط سيارتين، وتبين وجود حفر بعمق 3.5 متر وبقطر 1.5 متر، وتحرر محضر بالواقعة وتولت النيابة التحقيق.
وفى نوفمبر 2020 صرخت سيدة تستغيث لإنقاذ ابنتها (8 أعوام)، من أبيها الذى يريد ذبحها، ومن هنا اعتلت الدهشة وجوه أهالى محافظة أسيوط وألجمتهم الصدمة، حينما علموا أن الأب ينفذ نصيحة أحد الدجالين الذى أتى به للكشف عن مقبرة فرعونية تحت منزله، وأن الرصد (الجان الذى يحرس كنوز المقبرة حسب اعتقادهم) طلب إراقة دم طفل فوق المقبرة؛ لكى يفتح لهم باب الكنوز لينهلوا منها.
وفى عام 2019، شهدت محافظة الفيوم جريمة قتل تقشعر لها الأبدان بعدما قام أب بقتل زوجته وأبنائه الأربعة بسبب خلافات بينه وبين عصابات التنقيب عن الآثار، بعدما هددوه بالاعتداء على زوجته وأولاده وقتلهم فى حال توقفه عن الاستمرار فى أعمال التنقيب،
وفى منطقة نزلة السمان فى الحارة الرباعية بالهضبة الوسطى، قام «أسامة عبدالنبى ومختار أحمد والشيخ عصام، وعلى بسام» بالتنقيب بحثًا عن آثار فرعونية تحت المنزل، وعلى عمق 8 أمتار سقط الجميع داخل الحفرة وانهالت الأتربة عليهم، لتختلط دماؤهم بوهم الثراء.
أما قرية غمازة الكبرى التابعة لمدينة الصف بالجيزة، فقد شهدت طلب أحد الدجالين والمشعوذين من أحد المنقبين قربانًا عن طريق قتل ابنته البكر، وتقول والدة الطفلة “مي” المجنى عليها، وعمرها 6 سنوات، أن والد الطفلة أصابه جنون التنقيب عن الآثار تحت المنزل، حتى أخذ ابنته وقتلها بناء على طلب أحد المشعوذين.
وفى نفس المدينة لقى زوجان مصرعهما فى حفرة قاما بحفرها فى غرفة نومهما بحثًا عن الكنز المزعوم، وأشارت التحريات إلى أن الزوج يعمل فى بيع الفاكهة وأغراه حلم الثراء السريع، فراح يحفر فى منزله بحثًا عن الآثار بمساعدة زوجته فى ذلك، إلا أنهما لقيا مصرعهما عقب سقوطهما فى الحفرة، وعثرت قوات الأمن على حفرتين داخل مسكنهما، وبمعاينة المسكن تبين أنه مكون من طابق واحد، وبسؤال ابنهما ذكر أن والديه أحدثا الحفرتين للتنقيب عن الآثار منذ فترة، وسقطا فى إحداهما مما نتج عنه وفاتهما، وأقر أنه لا يتهم أحدًا ولا يشتبه جنائيًا فى وفاتهما، وأفاد بأنه وجيرانه قاموا باستخراج الجثتين من الحفرة بعدما أصابتها “لعنة الفراعنة”.
وفى شهر يوليو الماضى توفى ستة أفراد من أسرة واحدة بقرية العركى التابعة لمركز فرشوط، وبدأت الواقعة حينما تلقى اللواء مسعد عبدالجليل أبوسكين مساعد وزير الداخلية مدير أمن قنا إخطارًا من غرفة العمليات يفيد بمصرع 6 أشخاص من أسرة واحدة بعد انهيار بئر عليهم أثناء التنقيب عن الآثار وعلى الفور تم الدفع بسيارات الإسعاف إلى موقع الحادث.
هذه الحوادث مجرد نماذج لكوارث أخرى لقى الكثيرون حتفهم بسببها، أما من يعيش منهم ويلقى القبض عليهم فيواجهون عقوبات مشددة لاتهامهم بالتنقيب عن الآثار والاتجار بها وتهريبها، وفقًا لما قاله محمد حسين محمود، المحامى بالاستئناف العالى ومجلس الدولة، مشيرًا إلى أن العقوبة تتراوح بين السجن المشدد من 3 إلى 15 سنة، وحتى السجن المؤبد، وتصل إلى الإعدام حال محاولة.
وأوضح أن أهم الأسباب الكامنة وراء انتشار وتزايد هذا النوع من النشاط الإجرامى يرجع إلى غياب الوعى القانونى بخطورة مثل هذا الفعل، وكذلك حلم الثراء السريع لدى الشباب، فضلًا عن عدم فرض الدولة سيطرتها على العديد من الأماكن الأثرىة خاصة تلك الموجودة فى الوجه القبلى.
وأضاف الخبير القانونى، أن البطالة تعد أحد أهم الأسباب الكامنة وراء مثل هذه الجرائم، وعدم تنمية الوازع الوطنى بأهمية هذه الآثار وأنها تعتبر ثروة قومية للبلاد، كما أن الأمر ذاته بحاجة إلى تناوله من الناحية الدينية باعتبار أن مثل هذه الآثار فى حكم المال العام، موضحًا أن يمكن مواجهة هذه الظاهرة وردعها عن طريق نشر الوعى بأهمية الآثار من الناحية التاريخية، وأنها تعتبر أحد أهم مصادر الدخل من الناحية السياحية، وتعمل على تنشيط السياحة الداخلية والخارجية.
وطالب الخبير القانونى، بنشر ما تسفر عنه التحقيقات فى مثل هذه الجرائم وما يصدر فيها من أحكام لتحقيق الردع العام ليعلم الجميع بالعقوبة المقررة على مثل هذه الجرائم، حتى تحقق العقوبة الغرض منها وهو التقليل من الظاهرة، كما يمكن تناول هذا الأمر والتوعية بمخاطره من خلال الندوات التثقيفية ومراكز الشباب والجامعات والأندية والمنابر الإعلامية سواء المقروء منها أوالمسموع.
يذكر أنه فى يوليو 2021، بعد الكشف عن إحدى أكبر قضايا التنقيب عن الآثار والمتهم فيها رجل الأعمال حسن راتب والبرلمانى السابق علاء حسانين و17 آخرون، لاتهامهم بحيازة 227 قطعة أثرىة تعود لـ5 حضارات مختلفة، وضعت الدولة تعديلات للقانون الصادر عام 2018، والذى يخص عقوبة التنقيب عن الآثار، واشتمل القانون رقم 117 لسنة 1983 والمُعدل بالقانون رقم 91 لسنة 2018، على عقوبات رادعة لمواجهة عمليات التنقيب عن الآثار، تصل للسجن والغرامة، حيث نصت المادة 42 من القانون “على أنه يُعاقب بالسجن المؤبد وغرامة لا تقل عن مليون جنيه ولا تزيد على 5 ملايين جنيه، كل من سرق أثرًا أو جزءًا من أثر من الآثار المُسجلة والمملوكة للدولة أو المُعدة للتسجيل وذلك بقصد التهريب”.
كما نصّت التعديلات على أن تكون العقوبة السجن المشدد، لكل من قام بأعمال الحفر والتنقيب خلسة، أو أخفى الأثر أو جزءًا منه بقصد التهريب، ويُحكم فى جميع الأحوال بمصادرة الأثر والأجهزة والأدوات والآلات والسيارات المستخدمة فى الجريمة لصالح المجلس الأعلى للآثار.
وجاءت هذه التعديلات لمواجهة جريمة التنقيب عن الآثار التى يحميها الدستور، كما تنص المادة 49 من قانون حماية الآثار على أن تلزم الدولة بحماية الآثار والحفاظ عليها ورعاية مناطقها وصيانتها وترميمها واسترداد ما استولى عليه منها، وتنظيم التنقيب عنها والإشراف عليه، كما تحظر إهداء أو مبادلة أى شيء منها، وأن الاعتداء عليها والاتجار فيها جريمة لا تسقط بالتقادم.
ويعاقب قانون حماية الآثار المتورطين بجريمة سرقة الآثار بالسجن مدة لا تقل عن 5 سنوات ولا تزيد على 7 سنوات وبغرامة لا تقل عن 3000 جنيه ولا تزيد على 50 ألف جنيه كل من سرق أثرًا أو جزءًا من أثر مملوك للدولة أو هدم أو إتلاف عمدًا أثرًا أو مبنى تاريخيًا أو شوهه أو غير معالمه أو فصل جزءًا منه، أو أجرى أعمال الحفر الأثرى دون ترخيص أو اشترك فى ذلك.
كما ينص قانون حماية الآثار على أن تكون عقوبة سرقة الآثار الأشغال الشاقة المؤقتة وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على 50 ألف جنيه إذا كان الفاعل من العاملين بالدولة المشرفين أو المشتغلين بالآثار أو موظفين أو عمال بعثات الحفائر أو من المقاولين المتعاقدين مع الهيئة أو من عمالهم.
الدجل والفتاوى الخاطئة.. وراء انتشار الظاهرة
هوس التنقيب عن الآثار لم يكن تأثيره قاصرا على تلك الحوادث الفردية أو تهريب كنوزنا إلى الخارج فقط، بل تسبب فى كوارث منها انهيار آلاف المنازل
جراء عمليات التنقيب عن الآثار، حيث انهارت منازل على سكانها بحثا عن “الكنز المفقود”، ورغم تشديد العقوبة على من مرتكبى هذه الجرائم إلا أنها مازالت مستمرة.
وأوضحت الدكتورة ريهام عبدالرحمن، استشارى الصحة النفسية والإرشاد الأسرى والتطوير الذاتى، أن ظاهرة التنقيب عن الآثار انتشرت فى الفترة التى أعقبت أحداث يناير وحتى الآن، حيث أصبح هوس التنقيب عن الآثار ضالة يقصدها ضعاف النفوس لتحقيق الثراء السريع حتى على حساب حياتهم، إضافة إلى انتشار ظاهرة الدجل والشعوذة التى تسيطر على عمليات التنقيب بهدف النصب على البسطاء، ويظهر ذلك من خلال استخدام بعض السحرة والمشعوذين لبعض أنواع البخور المغربى والسودانى لفك طلاسم المقبرة، وتباع هذه الأنواع بأسعار عالية جدا.
وأشارت إلى أن الفتاوى الضالة التى أصدرها بعض المشايخ المتشددين حول حق انتفاع صاحب العقار أو الأرض بالآثار إذا وجدت تحت منزله، بالإضافة لبعض الفتاوى بوجوب تكسير التماثيل والأصنام الفرعونية فى حالة العثور عليها ساعدت على انتشار ظاهرة التنقيب.
وأكدت استشارى الصحة النفسية، أن التنقيب عن الآثار من أجل تحقيق المال والنفوذ جعل أصحاب القلوب المريضة يضحون بأى شيء مقابل الحصول على الكنز، ووصل الأمر لبتر أعضاء الحيوانات وذبح الأطفال والأقارب “وتقديمهم كقربان للجن حارس المقبرة”.
ولفتت إلى أنه لا يجب أن ننسى البطالة والفقر الذى يدفع بعض الشباب للاشتراك فى عمليات الحفر، أو العمل كوسطاء لتصريف هذه الكنوز، وهناك أيضا الطمع فى تحقيق الثراء السريع، خاصة من جانب بعض أفراد الطبقة المتوسطة حيث يدفعهم هذا الطمع لفعل أى شىء للوصول للكنز المدفون.
ولمواجهة تلك الظاهرة السلبية، أكدت استشارى التطوير الذاتى ضرورة التأمين الكافى للمنشآت الأثرية لمواجهة عمليات التنقيب
غير المشروع وذلك بالتعاون بين وزارتى الداخلية والسياحة، وزيادة الوعى بأهمية الآثار وأنها ثروة قومية لا تقدر بثمن، وصرف مكافآت مجزية لمن يبلغ عن جرائم التنقيب وتكريمه من قبل قيادات الدولة، والاهتمام بالتطوير التربوى والدينى والوطنى لدى النشء والشباب لتحقيق الانتماء للوطن، وفرض عقوبة لبعض صفحات مواقع التواصل الاجتماعى التى تروج للأجهزة المستخدمة فى التنقيب.
من جانبها قدمت آمال عبدالحميد عضو مجلس النواب، طلب إحاطة لرئيس مجلس الوزراء ووزير السياحة والآثار، لبحث ومناقشة انتشار ظاهرة التنقيب عن الآثار بين كثير من المواطنين فى مصر، وقالت النائبة فى طلبها: إن «الفترة الأخيرة شهدت انتشار هوس التنقيب غير الشرعى عن الآثار بين المواطنين فى مصر، وأصبحت تلك الظاهرة بمثابة حلم يراود البعض، وكثيرًا ما ينتهى هذا الحلم إلى كابوس صادم، تنتج عنه كوارث وخسائر فى الأرواح كانهيار الحوائط والجدران أو المنازل أو الممرات والسراديب على رؤوس القائمين على الحفر والتنقيب».
وأضافت: «يوميًا، تحدث وقائع التنقيب عن الآثار فى مختلف المحافظات أسفل المنازل القديمة وفى الأماكن التى تقع بمحيط المعابد والمتاحف المنتشرة فى ربوع مصر، كان آخرها واقعة التنقيب فى (البدرشين) بمحافظة الجيزة والتى قادت إلى الوصول إلى كشف أثرى، وبفضل يقظة رجال الشرطة تم ضبط المتورطين فى هذه الوقائع، سواء متلبسين بقطع أثرية تم استخراجها بالفعل جراء التنقيب، أو بحوزتهم أدوات الجريمة مثل «أدوات الحفر».
وأوضحت: «الغريب فى الأمر، والذى يستدعى مزيدا من التحقيق والدراسة حوادث الاختفاء والموت الغامض لكل من ينقب بالحفر العشوائى تحت المنازل، فضلًا عن استئجار المنقبين دجالين من دول عربية»، منوهة بـ «أنه أحيانًا يقع ضحايا أبرياء لمثل هذه الأعمال، لأن بعض الدجالين يغالون فى الطلبات، ويزعمون أن فك رصد أثر فرعونى معين يتطلب ذبح طفل أو طفلة، أو نثر أجزاء من أحشاء آدمى».
وأشارت آمال عبدالحميد إلى أن عقوبات التنقيب عن الآثار الحالية تحتاج إلى إعادة النظر وتعديلها، حيث ما تضمنه القانون رقم 117 لسنة 1983 والمُعدل بالقانون رقم 91 لسنة 2018 من عقوبات لمواجهة عمليات التنقيب عن الآثار «غير كافية»، ويحتاج الأمر إلى المزيد تجاه العابثين بالتاريخ والحضارة.
كنوزنا مصرية مهربة.. فى مزادات العالم
التنقيب عن الآثار جريمة قديمة متجددة كانت سببًا فى تهريب آلاف القطع الأثرية للخارج، إلا أن الدولة تعمل جاهدة حاليا على استرداد هذه الآثار المهربة خاصة تلك التى خرجت بطرق غير شرعية، فعلى سبيل المثال توجد فى المتحف البريطانى حوالى 100 ألف قطعة مصرية، بالاضافة إلى تلك القطع المعرضة فى متاحف أمريكا وإيطاليا، وإذا كان معظم هذه القطع خرج بطرق مشروعة مما يصعب استعادتها، فهناك آلاف القطع الأخرى التى تعرض فى المزادات وخرجت بطرق غير شرعية ويمكن استعادتها بعد اتخاذ الاجراءات اللازمة.
كانت الخطوة الأولى للحد من الاتجار بالآثار المصرية هى تلك التى اتخذها محمد على باشا عام 1835، عندما أصدر مرسومًا يحظر تصدير جميع الآثار المصرية والاتجار بها، وأسند مهمة الإشراف على هذا الأمر إلى رفاعة الطهطاوى، الذى نجح فى إصدار قرار بمنع الاتجار فى الآثار المصرية أو تهريبها خارج مصر، لكن بوفاة محمد على باشا عام 1849 عادت الأمور إلى عهدها الأول.
وفى عهد عباس وسعيد وإسماعيل خرجت كميات ضخمة من الآثار المصرية، حتى أصبحت القطع الأثرية تمنح كهدايا للأمراء والملوك والتجار والوجهاء والدبلوماسيين الأجانب، ففى عام 1855 حينما زار الأرشيدوق “ماكسميليان” أحد أفراد العائلة المالكة فى النمسا قاعة تضم آثارا فى القلعة أثناء زيارته لمصر، وأعجب الأرشيدوق بمحتوياتها فأهداها له والى مصر “عباس باشا” ونقلت إلى ڤيينا.
وخلال عام 1858 صدّق “سعيد باشا” على إنشاء مصلحة للحد من الاتجار فى الآثار، وفى مارس 1869 فى عهد الخديوى إسماعيل صدرت لائحة تضم 7 مواد تحظر إجراء أى حفائر إلا بترخيص رسمى من وزارة الأشغال العامة، وتمنع تصديرها، وفى عام 1874 صدرت لائحة جديدة سمحت للبعثات الأجنبية التى تعمل فى البحث والتنقيب عن الآثار بأخذ نسبة من الاثار المكتشفة.
كما صدر فى عام 1880 مرسوم بحظر تصدير الآثار نظرا لتزايد أعداد الأجانب الذين يغادرون مصر محملين بقطع أثرية، وكانت مصلحة الآثار على مدار قرن تقريبا تحت رئاسة علماء فرنسيين، وفى عام 1956 ومع جلاء قوات الاحتلال البريطانى نهائيا أصبحت مصلحة الآثار هيئة حكومية مصرية خالصة.
أما أول قانون متكامل لحماية الآثار فقد صدر عام 1912 ويحمل رقم 14، ويتضمن تعريفا للأثر وضوابط تداوله وعقوبات لمخالفة أحكامه، واستبعد المشرّع جميع الآثار الإسلامية من التصدير للخارج.
وفى عام 1951 صدر القانون رقم 215 بغرض وضع إجراءات عملية حاسمة للقضاء على تجارة الآثار، وفى عام 2010 صدر القانون رقم 3 الذى منع الاتجار فى الآثار نهائيا.
ورغم تلك القوانين، إلا أن الآثار ظلت تقدم كهدايا، ففى عهد جمال عبدالناصر تم إهداء معبد لأمريكا أقيم داخل متحف المتروبوليتان فى نيويورك تقديراً لمساهمتهم فى إنقاذ معبد أبوسمبل، وفى عام 1971 أهدى الرئيس أنور السادات 100 قطعة أثرية إلى الشاه محمد رضا بهلوى، وفى عام 1973 أهدى إلى هنرى كيسنجر قطعاً أثرية أخرى، وفى عام 1975 أهدى قطعاً إلى رئيس فرنسا جيسكار ديستان وأهدت جيهان السادات آثاراً إلى أميلدا ماركوس حرم رئيس الفلبين، وأيضاً إلى زوجة رئيس المكسيك.
يذكر أن العالم به 21 مسلة مصرية، منها 13 فى إيطاليا، و4 فقط فى مصر، وواحدة فى كل من لندن وباريس ونيويورك وإسطنبول.
وعقب ثورة 25 يناير زادت سرقات الآثار وتهريبها بطريقة ملحوظة، حيث تم عام 2018 ضبط حاوية ضخمة فى إيطاليا وبها 22 ألف قطعة أثرية عدد كبير منها تم شحنه من ميناء الإسكندرية.
ورغم قوانين حماية الآثار إلا أنها ما زالت تخرج من مصر بعدما يقوم المنقبون أو لصوص الاثار باستخراجها وتهريبها للخارج، وللأسف لا تتم استعادتها لعدم تسجيلها فى المجلس الأعلى للاثار، وتقوم إدارة استرداد الاثار بالبحث عن القطع المفقودة من المواقع الأثرية والمتاحف والمخازن الفرعية والمتحفية، وتتبع مواقع البيع الإلكترونى وصالات المزادات التى تقوم بعرضها للبيع، ومقارنتها بالقطع المفقودة من وزارة الآثار.
من جانبه، كشف الدكتور شعبان عبدالجواد مدير إدارة الآثار المستردة فى وزارة السياحة والآثار أن الدولة تولى اهتماما كبيرا بعمليات مكافحة تهريب الآثار وعمليات الاسترداد، مشيرًا إلى استرداد 29300 قطعة أثرية منذ عام 2011 وحتى الآن، ففى العام الماضى جرى استرداد نحو 5363 قطعة، لافتًا إلى أن جهود مصر دفعت العديد من دول العالم ودول الجوار إلى استنساخ تجربتنا فى استرداد الآثار، موضحا أن عمليات التهريب كانت قوية واستغرقت فترة من الزمن، لكن استنفار كل الجهات المعنية ساعد على استردادها”.
وأضاف مدير إدارة الآثار المستردة: “نسترد الآثار من صالات المزادات والضبط فى المطارات والموانئ ومتاحف عالمية وغيرها، والمنافذ الأثرية يحكمها القانون المصرى واتفاقية اليونسكو لأنها كلها داخل الحدود المصرية، لافتًا إلى أن الوزارة تعمل على منع التهريب لأن الاسترداد عملية صعبة جدا وتستغرق وقتا طويلا”.
ويقول اللواء عبدالوهاب الراعى أستاذ الإدارة بجامعة الدلتا والأكاديميات العسكرية والشرطية والخبير الأمنى عن جرائم الآثار إن تهريب وتجارة وحفر وتنقيب ووساطة وإخفاء وإتلاف الآثار تعد من المشاكل الاجتماعية والسلوكية المزمنة لدى عدد كبير من المواطنين، وهى قضية ذات تأثير سلبى على الأمن القومى لارتباطها الوثيق بالحفاظ على التراث الثقافى والحضارى الذى لا يقدر بثمن، بالإضافة إلى تداعياتها السلبية اقتصاديا واجتماعيا.
وأكد “الراعي” أن مصر تحتل المرتبة الأولى من حيث الدول الأكثر امتلاكا لتاريخ غنى، وتضاربت التقارير حول ترتيبها عالميا من حيث كمية الآثار بها، ولكن المؤكد أنها من أبرز الدول فى هذا الشأن ولديها اهم آثار الدنيا، مما جعلها مطمعا لارتكاب جرائم الآثار، وهناك ملايين القطع الأثرية المصرية المسروقة الموجودة بدول أوروبا وأمريكا وغيرها تم تهريب جزء ليس قليلًا منها بطرق غير شرعية خلال الفترات الماضية، ومعروضة بكبرى المتاحف بتلك الدول مثل متاحف برلين وبترى واللوفر وغيرهم.
وأضاف أنه خلال فترة الانفلات الأمنى عام 2011 تعاظمت جرائم الآثار بشكل واضح، لافتًا إلى أنه خلال السبعة سنوات الأخيرة تعاظمت بوضوح أيضا جهود اجهزة الدولة المعنية فى استرداد عشرات الآلاف من قطع الآثار المسروقة، وشهدنا فاعلية حقيقية من انشاء اللجنة القومية لاسترداد الآثار برئاسة وزير الآثار وعضوية خبراء وممثلين عن وزارات وهيئات حكومية ومدنية مختلفة.
وتابع الخبير الأمنى، أن الوقت الراهن شهد أبرز تدخل تشريعى لمواجهة تلك الجرائم بصدور القانون رقم 20 لسنة 2020 والذى تراوحت العقوبات به ما بين السجن المؤبد والمشدد والبسيط والغرامات التى تصل إلى عشرة ملايين جنيه وفقا لنوع ونمط كل جريمة.
وأشار إلى أن هناك أسبابًا متعددة لهذا الهوس المجتمعى لدى المواطنين نحو جرائم الآثار والتى قد تقترن احيانا بجرائم اخرى تصل إلى القتل العمد، ومن هذه الأسباب البطالة وضعف الوعى والوازع الدينى والطمع فى الربح السريع وصدور بعض الفتاوى الضالة من أفكار دينية متطرفة مقترنة ببعض الاعتقادات الاجتماعية المخلوطة بالدجل والسحر واعمال النصب.
ولفت الخبير الأمنى إلى أن هذا الملف يمثل ثروة قومية مصرية قد تقترب من البترول الخليجى فى نفوذها العالمى اقتصاديا، بالإضافة للقيمة التاريخية والثقافية، وبالرغم من أهمية المواجهة الأمنية والتشريعية فى المساهمة فى الحد من المشكلة، إلا أن الأمر يتطلب حلولا أخرى مثل أهمية تضمين مناهج التعليم لتلك المشكلة وأبعادها وآثارها ومزيد من الفاعلية الممنهجة لدور الأوقاف والأزهر والكنيسة والأندية والنقابات ومراكز الشباب والإعلام والاتحادات الشبابية والطلابية والأحزاب والجمعيات الأهلية وغيرها