كثير من المصريين مثلى يحلمون بإعلام مختلف، إعلام يليق بمصر التى كانت تلحق بأى تطور فى العالم فى المئتى سنة الأخيرة بأسرع من دول كثيرة، برلمان وسكك حديدية ومسرح وسينما وصحافة.. الخ حتى اقتربت من أعتاب أوروبا لكنها لم تستكمل درب التحديث إلى نهايته، وإذا كنا نتحدث عن التليفزيون أخبارًا وبرامج ومنوعات، فعمر مصر فيه 62 سنة، كانت كافية أن يحلق إعلامنا فى فضاءات سامقة، لكن حدث العكس، بدأ عملاقًا ثم تقزم بالتدريج، حتى بات يشكو منه الجميع، الحكومة والناس، المؤيدون والمعارضون، البسطاء والمعقدون، أصحاب المهنة وأصحاب الفرجة.
أين الخطأ أو الخطيئة التى عاقت أن نملك إعلامًا جيدًا للغاية؟
أتصور أن الخطأ يتجسد فى المفاهيم.. مفاهيم الأضلاع الثلاثة: ملاك الفضائيات، صنَّاع المحتوى المباشر من مذيعين، ووكالات الإعلانات، والثلاثة يلعبون على وتر واحد، وهو الجمهور وكيفية كسبه، وهو وتر صحيح مئة فى المئة، فأى «عمل يتصل بمتلقى»، كتاب، رواية، جريدة، أغنية، فيلم، مسرحية، لوحة فنية، قطعة موسيقية، صورة فوتغرافية، إذاعة، قناة تليفزيونية، لا تصل إلى الجمهور أو لا يُقبل عليها أو لا يتقبلها أصلا، فهى فقيرة القيمة وعديمة الجدوى وخسائرها فادحة، مع العلم أن درجة القبول والرضا والولع بأى منها متفاوتة من طبقة إلى طبقة ومن فئة إلى فئة، وأيضا من إنسان إلى إنسان، ومن هنا تأتى شطارة صانع المحتوى فى «ضبط» موجات إرساله، مع موجات استقبال الجمهور.
أى أن علاقة المحتوى بالجمهور هى التى تحدد «مفاهيم» إنتاج المحتوى، وفق تصور الصانع لما يقبل عليه هذا الجمهور، وثمة تصور شائع وهو صحيح كلما كنت بسيطا ومسليًا وساخنًا ومعارضًا ومهزارًا ومثيرًا توسعت قاعدة المشاهدة وتضخمت مكاسب الإعلانات، بغض النظر عن ضرر هذا المحتوى أو نفعه، وكلما كنت جادًا ومثقفًا ابتعد عنك الجمهور وهرب منك.
لكن الإعلام العام يختلف كثيرًا، إذ لا يحكمه معيار المكسب والخسارة، ويظل معيار الجماهيرية عنصرًا أساسيًا فيه، وهو ما فعله التليفزيون المصرى عند تأسيسه فى سنة 1960، بعد شهرين فقط من تأميم الصحافة المصرية، فجمع بين الجدية والجاذبية، برامج تستضيف كبار الكتاب والمفكرين والفلاسفة والعلماء والصحفيين والنابهين فى أعمالهم، وبرامج تناقش قضايا المجتمع اليومية، وبرامج تمتلأ بالضحك والتسلية والخفة والغناء والرقص، علاوة على مسرح التليفزيون والمسلسلات والأفلام العربية والأجنبية، أى كان التليفزيون يسلى ويعلم ويرشد فى الوقت نفسه.
طبعًا كانت تحكمه فلسفة الحكم وهى «حشد» المصريين خلف الرئيس جمال عبدالناصر فى قضاياه القومية والعالمية فى نشرات الأخبار والتقارير الإخبارية والتعليق على الأحداث، وعدم الاقتراب من الأزمات الداخلية.. الخ، وكان ذلك مقبولًا من غالبية المصريين فى ظل الشعبية الجارفة التى كان يتمتع بها جمال عبدالناصر.
بالطبع لم يسمح وقتها لأى صوت معارض أو مختلف أن يظهر على شاشتيه الأولى والثانية أو فى برامج الإذاعة التى كان يحكمها نفس المنطق منذ أول صوت لها فى 31 مايو 1934.
لعب الإعلام المصرى دورًا عظيمًا فى الستينيات فى قضايا مصر القومية والدولية، بما ملكه من كوادر فى غاية الكفاءة، لكنه لم يستطع أن يكون «زرقاء اليمامة» التى تحذر قومها من الخطر المتربص به، أكان خطرًا خارجيًا أم خطرًا داخليًا، وكان الخطر الداخلى هو الأشرس والأشد قسوة وتأثيرًا، لأن الأخطار الخارجية لا تتوقف، وهى عمومًا تحيط بكل الدول والأمم، فالعالم يشبه غابة بالمعنى الحرفى، والكلام الطائر عن القيم والمثل وحقوق الإنسان والحريات هو من وسائل إدارة الصراعات، ولن تكون أوكرانيا آخر الضحايا، هى مجرد رقم فى مسلسل متصل، إلى جانب فلسطين وأرمينيا وكوسوفو وكوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق وجزر فوكلاند والصومال ومالى.. الخ.
نعم.. كانت سحب الخطر الخارجى تتكثف حول مصر منذ الوحدة المصرية السورية، فى خطة أسموها «اصطياد الديك الرومى»، لإسقاط جمال عبد الناصر، وبلغت ذروتها فى هزيمة يونيو 1967.
لكن الخطر الداخلى كان الفيروس الأشرس الذى أضعف جهاز مناعة الوطن، لأنه تحت الجلد، فى الجسد الذى نعيش به وله، خطر تمثل فى مراكز قوى وامتيازات واستغلال نفوذ وفساد وصراع على السلطة.
ولم يجرؤ الإعلام أو لم يستطع أن يحذر أصحاب القرار من «الفخ» الذى نصبوه قبل الحرب، خاصة أن جزءًا مهمًا من القوات المصرية كان فى اليمن، وكنا قادرين على حماية ثورتها دون استدراج مباشر إلى التدخل العسكرى.
حقًا يمكن للإعلام أن يؤيد ويحشد، لكن إذا لم يلعب دور «زرقاء اليمامة» فى رصد الأخطار الداخلية والخارجية على البعد، فهو إعلام ضار بالوطن، الذى يشبه إنسانًا يأكل لحمًا شهيًا بشراهة فيمرض بالتخمة التى تشل حركته أو تضعفها.
وقد أدرك عبدالناصر ذلك بعد يونيو، وقرر أن يفتح الأبواب والشبابيك إعلاميًا وسياسيًا، لكن ظروف النكسة وإعداد مصر لتدافع عن كرامة جيشها العظيم وتسترد الأرض المحتلة، حال دون أن ينفذ ما فاض به فى خطب وجلسات خاصة واجتماعات سياسية.
لم يختلف حال الإعلام العام كثيرًا فى عصرى الرئيس أنور السادات أو الرئيس حسنى مبارك، لكن تحت ضغط قنوات تليفزيونية عربية تمتعت بمساحات حرية عالية وجرأة غير مسبوقة فى تناول القضايا المحلية فى أغلب الدول العربية، إلا فى بلادها الأم، سمحت الدولة بأمرين: ظهور قنوات فضائية خاصة لأول مرة وتوسيع هامش حرية التعبير والنقد، خاصة أن العالم نفسه قد تغير تمامًا مع بدايات الألفية الثالثة، أو بمعنى أصح راحت مفاهيم الإعلام القديم فى غيبوبة لم تفق منها، ثم ماتت تحت جحافل وسائل الاتصال الحديثة.
وبالرغم من براعة صفوت الشريف وزير الإعلام فى زمن مبارك ومهاراته وقدراته السياسية، لم يقرأ الخطر الذى لاح فى الأفق ويهدد ماسبيرو بالضعف، فقد صارت الدنيا مسرحًا مفتوحًا، وما تخفيه أو لا تقوله سيسمعه مواطنوك أو يشهدونه ألف مرة سواء كان صحيحًا أو مشوهًا بقصد بث صور تستهدف وعيه وفكره ومفاهيمه لمجتمعه وتدفع مشاعره فى اتجاهات مرسومة ببطء وتراكم.
وأيضًا بدأ الإعلام الخاص الذى انطلق بفضائية دريم فى عام 2001، يتمدد، ويقتحم عالم السياسة المغلق ويستضيف أكثر الناس تشددًا، فالتشدد جاذب بطبعه للجمهور، وفرضت وكالات الإعلانات سطوتها، فكانت تحدد أسماء ضيوف بعينهم للظهور على الشاشات شرطًا لإعلاناتها، وكان لبعض المعلنين ذوى الأسماء العالمية والوكالات علاقات خارجية، وهى التى اختارت ضيوفًا لأغلب الفضائيات الخاصة فى عامى 2011 و2012.
ناهيك عن برامج الرقص والغناء ونجوم السينما ولاعبى الكرة وتسليط الأضواء الصاخبة على الفضائح والخناقات، خاصة فى البرامج الرياضية، مقابل حجب الأنوار تدريجيًا عن شخصيات مصرية علمية وفكرية، كما لو كان الرقص والكرة والعقل الغوغائى هى النموذج والقدوة التى يجب أن يمضى خلفها المجتمع، وبالفعل تسطح المجتمع.
واكتشف أغلب المذيعين أن أسرع طريقة إلى قلب المشاهد هى «أساليب الدعاة الدينين»، فالناس تسلم عقولها تسليم مفتاح للداعية، يقلب فى عقولهم ويأخذ منها ويضيف إليها ما يشاء، وكلما امتزجت شخصية المذيع بعبارات ساخنة لها بريق، ارتفعت درجة السيطرة وتوسعت قاعدة المريدين، ومن هنا صعد إعلاميو المصطبة، أو المذيع «أبوالعريف» الذى يفتى الناس فى كل شىء، ويستضيف «خبراء» نصف معلوماتهم على الأقل قديمة أو منقوصة أو غير صحيحة.. وهذه واحدة من أسباب أزمة الوعى الحالية.
المدهش أن الإعلام العام بدلا من أن يعيد التوازن إلى المنظومة انجرف إلى منطق التسلية والتفاهة التى تطارد الناس فى برامج كثيرة، دون أن ننكر ثمة برامج فى غاية الجودة الفنية والجدية فى بعض القنوات العامة والخاصة، لكنها ليست تيارًا عامًا.
باختصار يجب أن يعيد الإعلام العام قراءة المشهد قراءة جيدة، ويستوعب المسافة الصحيحة بين الحشد والوعى، فالخلط الشديد بينهما يفسدهما معًا، ويجب أن يسأل الإعلام الخاص نفسه عن كيفية صناعة المتعة والجدية دون الاستغراق فى التفاهة.
نعم لا تزال الأحلام ممكنة وقد كتبت مقالى هذا قبل أن أشاهد قناة «القاهرة الإخبارية» الجديدة التى أتمنى أن تكون ضربة معول فى إعلام المصطبة، لنهدمه، ونبنى إعلامًا يليق بمصر.