ولدت منتصف الثمانينات، فى إحدى قرى الدلتا الهادئة أكثر من اللازم، والتى تكاد تكون منعزلة كليا عن كل ما يحدث خارجها، قد يكون لدينا متعلمين فربما يكون جيل أبى وأعمامى هو الجيل الأول الذى انتسب للجامعة، مع أن بعض أجدادى كانوا من الحاصلين على شهادة البكالوريا، لكن لا يمكننى القول إنه كان لدينا مثقفون حقيقيون فاعلون أو حتى حكائون ودودون يمكنهم أن يحدثونا عن الحقب التى عاصروها، يحكوا لنا عن زمن عبد الناصر أو السادات، يخبرونا عن نكسة 67 أو حرب الاستنزاف، يقصوا علينا أحوالهم فى هذه الأزمنة، مواقفهم ومشاعرهم تجاه ما يحدث، هم غالبا يعيشون على الهامش مطحونين فى السعي خلف لقمة العيش- وكثير منهم اختار السفر للخليج والبعد عن كل ما يحدث فى مصر خيرا كان أو شرا- لا يفعلون شيئا فى حياتهم سوى الذهاب لعملهم وتربية أبنائهم، وإبعادهم عن أى نشاط سياسى أو اجتماعى يعطل مسيرتهم الأكاديمية، أملهم الوحيد هو أن يحصل ابن لهم على شهادة الطب أو الهندسة حتى لو اضطروا لحبسهم مع الكتب المدرسية فى غرف مغلقة بعيدا عن أى شىء فى الخارج، لذلك نشأنا جميعا إلا من رحم ربى بلا أى معلومات سوى ما نضطر لحفظه فى المناهج الدراسية، والتى لم تكف لجعلنا ننتمى أو نؤمن بشىء أو حتى نعرف عن شىء، كنت أنا من بين كل هؤلاء الأبناء، لم أكن من المتفوقين رواد كليات الطب، ولم يكن لدىّ أى إنجاز سوى أنى أنجح بدرجات فى الغالب متوسطة وهذا لم يكن يرضى عائلتى بكل تأكيد، لكن على كل حال ما أريد أن أخبركم عنه هو أنه كان لدى شغف المعرفة، كنت أقرأ، فى البداية كانت المعانى والمصطلحات جوفاء ليس لها وقع أو أثر حقيقى داخل نفسى، الانتماء…، الوطن..، العدو…، الأرض… الهزيمة… النصر
كلها مصطلحات لا أستطيع أن أجزم أنى كنت أحمل أى مشاعر حقيقية تجاهها، وربما هذه هى مشكلة جيلى والأجيال التى تلته، التى لم تعاصر خبرة حياتية حقيقية تشعرها بهذه المعانى، فقط الكتب والروايات والأفلام التى تناولت هذه المصطلحات هى ما شكلت هويتى، فروايات مثل الحرب فى الشرق للروائى زين عبد الهادى، والتى كنت بصدد الكتابة عنها، فوجدتنى أكتب تاريخي، مثل هذه النصوص تجعلنى أشعر بمعنى الانتماء للمكان، معنى الوطن مهما كان قبحه، وأقف مندهشة أمام مثل هذا المقطع «على مدخل بورسعيد أشارت الساعة إلى السابعة صباحا، أكوام من المخلفات فى كل مكان، لم تترك شارعا، بل هناك شوارع تمتلئ بأكوام من المخلفات المتراصة بجوار بعضها البعض، فى تحد تقف الفئران الكبيرة فوقها وكأنها سكانها الأصليون، كأنها تشاهد البشر الذين يتحركون كغرباء فى المدينة، بينما تحولت المدينة للون الكاكى، يشاهدنى بعض الجنود الذين يتحركون فى أسواق المدينة بدهشة، حسنا ها هى مدينة فقدت أطفالها وها أنا طفل مجنون يعود» ص139، تجعلني أدرك معنى الهزيمة فى جمل كتلك «كنت أشاهد كل أحلامى القديمة تحترق..، أدركت أننا لن نعود مرة أخرى، كل شىء قد أغلق وأكلته الأمطار والحرارة وأطاح بالباقى سكون الموت» ص142، أدرك معنى أن يكون الحلم هو كل ما تملك للنجاة فى كلمات مثل «من بعيد تأتى همسات وصخب هدير أمواج البحر المالح يمسح أقدام بورسعيد الشمالية، ويلقى عليها ببعض الأصداف، ثم يملأ سماء المدينة بخلفية موسيقية لا تنتهى هى مزيج بين السوناتا والكونشرتو، ولن يسمعها سوى قلب محب وضعت فيه أسرار الخلق، تزيح أمامها السحب الكثيفة والسفن وأرواح الموتى تاركة المدينة فقط لأحلام الناس ووداعة طموحاتهم الرقيقة الغارقة فى بساطة أرواحهم..» ص150
فى الحقيقة إن روايات مثل «الحرب فى الشرق» جعلتنى أؤمن بأن التاريخ الحقيقى هو حكايات الناس وقصصهم، فالذاكرة الشفهية للبسطاء وسيرهم الشخصية تجعل لكل المعانى الجافة بكتب الفلسفة والتاريخ أثرا كبيرا فى نفس الإنسان، قد لا يدرك البائع المتجول أو الخياطة أو بائعة الروبابيكيا أو الطفل أو الصيادون أبطال الرواية مصطلحات مفخمة كتلك التى تأتى فى خطابات الساسة أو المثقفين الحذقين ومذيعى النشرة… لكن أمكنهم بحكاياتهم البسيطة عن تجربتهم أن يصلوا بمعنى كل هذه المفاهيم إلى أعماق روحى، مما جعلنى أؤمن أننا بحاجة لروايات وأفلام كهذه تقدم لنا حكايات أناس عاشوا تلك الفترات من تاريخنا، الحكايات التى تقدم لنا رؤية واسعة عن مجتمعنا، تعيد لنا ولأبنائنا الحس الإنسانى والانتماء الوطنى، قصص نعرف من خلالها من هم أعداؤنا ومن هم أحبتنا، نبكى ونضحك فى آن واحد على موت أحدهم بين السطور كما بكيت على موت «حياة» فى خاتم النص، بحاجة لنصوص تعيد لنا المشاعر التى سحقتها الفردية والعوز فى مجتمع التيه هذا الذى تأرجح بين الزراعة والصناعة…، الانفتاح والانغلاق…، اشتراكية القطاع العام ورأسمالية القطاع الخاص…، ليخرج من عنق الزجاجة التى سحقتنا وجعلت كل شىء مشوها فى عيوننا وعيون أبنائنا، بحاجة لتلك الحكايات لتتصدى لكل العنف والفوضى، كل هذه الحروب التى تسود العالم فى اللحظة الراهنة، لندرك قيمة السلام أمام ما تفعله الحروب وما تخلفه من دمار فى النفوس قبل المدن. لدينا عشرات الكتب التى تتحدث عن التاريخ الجامد، تاريخ المفاوضات والمعاهدات، خطط الحروب واستراتيجياتها، نوع الأسلحة وطرق استخدامها، عشرات الكتب التى تصف كل شىء إلا أحوال الناس، آلامهم وأفراحهم ومشاعرهم تجاه ما يحدث.