تنتشر في إفريقيا منذ التسعينيات – بأكثر حدة- النزاعات الداخلية الدموية، والتي تتميز بخصوصياتها من حيث امتزاج الأسباب بالنتائج، وسهولة الانتشار الإقليمي، وصعوبة الاحتواء والإدارة، مما جعلها مرشحة للاستمرار أكثر من الحل.
وفي غالب الأحيان تظهر النزاعات الإفريقية في شكل جديد، أو تنتقل إلى دول أخرى بسبب التشابه في الأوضاع التي تعيشها دول المنطقة المحيطة بدولة النزاع. والواقع أن الحسم في النزاعات الإفريقية طوال فترة التسعينيات وما تلاها كان دائما خارج إطار التسوية السلمية، حيث لم توفق جهود المنظمة القارية ممثلة في منظمة الوحدة الإفريقية أو الاتحاد الإفريقي بعدها في وقف النزيف الدموي،
مما أدى في العديد من الأحيان إلى التدخل المباشر في تلك النزاعات. ويعتبر النزاع في مالي سنة 2012 خير مثال عن النزاعات الإفريقية الطويلة الأمد حيث يجمع بين معظم الخصائص التي تميز النزاعات في إفريقيا، سواء من حيث طبيعته، وأسبابه، أو من حيث صعوبة إدارته التي لم تتأت إلا من خلال تدخل عسكري فرنسي مباشر. وعند بداية التسعينات، شهد التعامل الإفريقي مع النزاعات الداخلية تحولات جوهرية ارتبطت بالتحولات الراهنة في قمة النظام الدولي إضافة إلى ذلك التحولات التي شهدتها القارة الإفريقية لاسيما تلك المرتبطة بازدياد عدد وحدّة النزاعات الداخلية في الكثير من الدول الإفريقية، إذ أصبح من الصعب على منظمة الوحدة الإفريقية أن تقف عاجزة فاضطرت بالتالي إلى النهوض بعبء اكبر في التعامل مع هذه النزاعات خاصة بعد فشل التدخل الدولي في العديد منها, ولذلك بـذلت ليبيـا جـهـوداً مكثفـة بالتعـاون والتنسيق مع الامانة العامـة لمنظمـة الوحـدة الافريقية ومع الدول الاعضاء في المنظمة من اجل تفعيل دور منظمة الوحدة الافريقية ،
اذ عقدت ثـلاث قمم لمنظمـة الوحـدة الافريقية ، اثنـان منـهـا استثنائية وثالثـة اعتياديـة ( سـرت الاستثنائية الرابعة ايلول ۱۹۹۹ ، قمة لومي تموز ۲۰۰۰ ، سرت الاستثنائية الخامسة آذار ٢۰۰۱ ) أسفر عنها الاعلان عن قيام ” الاتحـاد الافريقي وبرلمـان عمـوم افريقيا ” وباكتمال النصاب القانوني المتمثل بتصديق ( 36 ) دولة وهو ما يمثل ثلثي اعضاء منظمة الوحـدة الافريقيـة دخـل القـانون التأسيسي للاتحـاد الافريقي المكـون مـن ديباجـة وثلاثة وثلاثين مـادة حيز التنفيذ .
مع الملاحظة ان المـادة ( ٣٣ ) فقرة ( ۱ ) تنص على ان ” يحل هذا القانون محل ميثاق منظمة الوحدة الافريقية غير ان الميثاق يظل ساريا لفترة انتقالية مدتها سنة واحدة أو لمدة أخرى يحددها المؤتمر بعد دخول هذا القانون حيز التنفيذ وذلك لتمكين منظمـة الوحـدة الافريقيـة / الجماعة الاقتصادية الافريقيـة مـن اتخـاذ التدابير اللازمة فيما يتعلق بتحويل اصولها وخصومها الى الاتحاد او احالة جمع المسائل الأخرى ذات الصلة اليه ” وبذلك حل الاتحاد الأفريقي محل منظمة الوحدة الأفريقية بأديس أبابا بتاريخ 25 أيار 1963. وكانت مدينة ديربان بجنوب أفريقيا مقر انعقاد أول قمة لهذا للمنظمة من 8 إلى 10 تموز 2002. ولم يشأ الاستعمار الأجنبي أن يرحل عن القارة المَكلومة إلا بعد أن قسّمت الإمبراطوريات والدول الاستعمارية الأوربية المغانم الإفريقية، عن طريق تعيين الحدود بين الدول الإفريقية بخطوط جارت، وقست، وفصلت بين الأمم والشعوب والقبائل الإفريقية، التي لم تكن لتعرف الحَد، ولم تُخَّبر بالتخم، إلا قسراً وجبراً من لدن المستعر الأبيض.
تَزخر كثير من دول العالم بنزاعات حدودية تجر حكوماتها وشعوبها لحروب ونزاعات قد تمتد ربما لقرون في حالات معينه، بيد أن القاره الإفريقية تَميزت عن القارات الأخرى سواء أميركا الجنوبية وآسيا وأوروبا بكثرة النزاعات التي تثور بين الفينة والفينة بين دولها حول تعيين أو وترسيم حدودها، ويُعد النزاع الحدودي القديم الجديد بين السودان وأثيوبيا مثالَا صارخًا وبرهاناً ساطعاً للنزاعات الحدودية الإفريقية، ولذلك نجزم ببزوغ في السنوات الأخيرة، أَمارات ودلائل القانون الدولي للحدود، ويعُد الأخير نتاجاً لكتابات الثقاتِ من فقهاء القانون الدولي فضلا عن أحكام القضاء والتحكيم الدولي، فرسخت العديد من المبادئ العامة والأساسية التي تنظم كيفيه تعيين الحدود الدولية سواء البريه أو البحرية بين الدول.
نظراً لأن المقام لا يتسع لسرد كافة المبادئ العامة والأساسية للقانون الدولي للحدود الدولية، سنعرض، وباختصار غير مخل أهم هذه المبادئ، ولكن الأهم في ذات المضمار أن نشير إلى أن المقصود بذلك القانون هو مجموعه المبادئ العامة الناظمة التي ينبغي أن تكون موضع اعتبار أطراف النزاع حين يقوموا سواء بذاتهم أو عن طريق تدخل طرف ثالث بتسوية ما يثور من نزاع بينهم، مُتوسلين في ذلك الشأن بالوسائل الدبلوماسية المعروفة أو الوسائل القضائية، وهذه المبادئ تبدو متكاملة ومتشابكة، وتهدف هذه المبادئ لهدف رئيسي وهو التثبيت الدائم للحدود الدولية بين الدول المتجاورة سواء كانت بريه أو بحريه.
يُعد مبدأ التسوية السلمية للنزاعات الحدودية أحد المبادئ القانونية الدولية الراسخة، حيث يلزم المبدأ الدول المتنازعة باللجوء للتسوية السلمية لهذه النزاعات، كما يحظر عليها في الوقت ذاته اللجوء إلى القوة المسلحة أو التهديد بها لتسويه هذه النزاعات، ولا تختلف هذه الوسائل عن تلك التي نصت عليها المادة 33 من ميثاق منظمة الأمم المتحدة، وهي المفاوضات، والوساطة، والتوفيق، والتحقيق، والتحكيم، والقضاء، واللجوء إلى المنظمات والوكالات الدولية والإقليمية، أو أي وسائل أخرى تختارها الدول المتنازعة.
أقَرت جميع الاتفاقيات الحدودية مبدأ عدم تغيير الحدود القائمة بالقوة، ويستثني ذلك المبدأ التغير الجوهري في الظروف من إمكانيه لجوء الدول لإنهاء أو التحلل من اتفاقيه تعيين الحدود الدولية، أيضا يأتي ذلك المبدأ إعمالا للفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق منظمه الأمم المتحدة، حيث نصت على: يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوه أو استخدامها ضد سلامه الأراضي أو الاستقرار السياسي لأي دوله أو على أي وجه أخر لا يتفق مع مقاصد الأمم المتحدة، لذلك يحظر على الدول أن تلجا لاستخدام القوة المسلحة أو التهديد باستخدامها في مواجهه دول أخرى، والمبدأ المشار إليه مُقَدّم على أي التزام آخر ويمتد نطاق المبدأ ليشمل أيضا الدول غير الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة وذلك بالنظر لكون خرق ذلك المبدأ من شأنه أن يهدد السلم والأمن الدوليين.
أما مبدأ الصحيفة البيضاء في تعيين الحدود الدولية، فيُقصد به صرف النظر وبشكل كلي عن كافة المعاهدات السابقة التي أبرمتها الدولة المُوَرِثة خاصة بالإقليم الموروث الذي أضحى ضمن سيادة الدولة الوارثة أي الدولة الخلف بسبب واقعة التوارث الدولي، ويَعني المبدأ بعبارة أخرى، أن الدول المستقلة حديثا عن الدول الاستعمارية تبدأ علاقاتها التعاهدية وصحيفتها بيضاء غير مُحمّلة بأعباء أو التزامات دولية التزمت بها الدول الاستعمارية، و لم يكن للدول المستعمرة يد فيها، فعندما تستقل الدول لا يرتبط الإقليم المستقل بالمعاهدات التي تكون قد دخلت فيها دولة الأصل لأن المعاهدة عقد لا يُلزِم إلا الدول الموقعة عليها، فتعبير “مبدأ الصحيفة البيضاء” هو الطريقة المناسبة للتعبير عن المفهوم الأساسي القائل بأن الدولة المستقلة حديثا تبدأ حياتها طليقة من أي التزام.
امتد ذات المبدأ إلى إفريقيا وآسيا بسبب موجه التحرر التي اجتاحت هاتين القارتين في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث أجمع الزعماء المؤسسون لمنظمة الوحدة الإفريقية في اجتماع القمة الإفريقية في مايو عام 1963 على تأييدهم الجماعي لمبدأ وضع اليد الفعلي والحدود الموروثة عن الاستعمار، كما شَكل المبدأ الجزء الأهم من قرار قمه منظمة الوحدة الإفريقية في المؤتمر المنعقد بالقاهرة في الفترة من 17 إلى 20 يونيو 1964، حيث أعلن المؤتمر وبناء على اقتراح من الرئيس التنزاني “جوليوس نيريري” أن مشاكل الحدود عامل خطير ومستمر وسبب رئيسي للنزاعات بين الدول الإفريقية، وأن رؤساء الدول الإفريقية يعلنون بأن الحدود القائمة الآن الموروثة عن الاستعمار هي حقوق ثابته، ويعلنون رسميا بأن جميع الدول الأعضاء تلتزم باحترام الحدود التي كانت قائمة لحظة حصولها على الاستقلال، وهكذا تطور هذا المبدأ تدريجيا وأصبح الآن المعبر عن “مبدأ قدسيه الحدود”.