بعدما يزيد عن شهرين من الاحتجاجات وقتل المتظاهرين أعلن المدعى العام فى إيران محمد جعفر منتظرى الأسبوع الماضى إلغاء ما يسمى بـ ” شرطة الأخلاق “، ومراجعة قوانين فرض الحجاب على النساء، مؤكدا أن السلطة التى أنشأت هذه الشرطة هى نفسها التى قامت بحلها، ورغم التشكيك فى جدية القرار وجدواه، فهناك أصوات رسمية فى إيران امتدحته، وتحدثت عنه باعتباره استجابة من الحكومة لمطالب الشعب، وعمل يستحق الثناء، حتى وإن جاء متأخرا .
وأيا كان الأمر فإن حل جهاز” شرطة الأخلاق، المعروفة باسم ” دوريات التوجيه ” يمثل أول تنازل من السلطات الإيرانية، أمام الغضب الشعبى الذى أثارته وفاة الفتاة الإيرانية ” مهسا أمينى “، بسبب التعذيب فى مركز أمنى بعد اعتقالها من قبل ” شرطة الأخلاق ” فى العاصمة طهران، لعدم ارتدائها الحجاب بطريقة سليمة، وكان هذا الحادث سببا فى اندلاع العديد من المظاهرات والاحتجاجات ضد ” شرطة الأخلاق” وقوانين قمع المرأة عموما، ثم تطور الأمر إلى المطالبة بإسقاط النظام الإيرانى بأكمله.
وتأتى خطوة إلغاء ” شرطة الأخلاق ” فى إيران، ومن قبلها إلغاء هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى السعودية، لتطرح فكرة الحرية الدينية الآخذة فى الانتشار والتوسع فى العديد من البلدان الإسلامية، ومن أبرز تجلياتها الاهتمام بحقوق المرأة، والتسامح فى لباس النساء دون رقابة أو إجبار، وبالخصوص فيما يتعلق بغطاء الرأس ” الحجاب “، الذى تحول إلى أزمة مجتمعية بين من يريدون فرضه فرضا، ومن يدعون إلى حظره بالقانون، وإجبار النساء على التخلص منه.
ومنذ أن انطلقت فى إيران الاحتجاجات ضد فرض الحجاب فى سبتمبر الماضى، حظيت بدعم هائل من جانب الغرب، الحكومات والإعلام والنخبة المثقفة، وكان العنوان الأبرز الذى أطلق على هذه الاحتجاجات أنها من أجل الحرية، وبالتحديد الحرية الدينية، وحرية المرأة فى أن ترتدى الحجاب أو تخلعه دون تدخل من الدولة أو أية جهة أخرى.
والحرية بهذا المفهوم العام مقبولة ومرغوبة، لكن المشكلة أن الغرب لايرى حرية المرأة إزاء الحجاب إلا إذا كانت حرية الرفض، أى حرية المرأة فى أن ترفض ارتداء الحجاب، أو الدفاع عنه، ويتغافل تماما عن حرية المرأة فى أن ترتدى الحجاب، وحقها الطبيعى فى أن تدافع عن حجابها إن كانت ترتديه بإرادتها، فى مواجهة من يفرضون عليها أن تخلعه، هنا تظهر الازدواجية الغربية إزاء مفهوم الحرية من حيث المبدأ.
فى أكتوبر الماضى قضت محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبى بحظر ارتداء الحجاب فى مقرات العمل الحكومية والخاصة، وفى جميع بلدان الاتحاد، ما يعنى أن المرأة المسلمة التى تعيش فى أوروبا، سواء أكانت أوروبية أو مهاجرة، سوف تتضور جوعا إذا أصرت على ارتداء الحجاب، ولم يكن لديها من يكفلها، لأنها لن تجد فرصة عمل فى الأجهزة الحكومية أو القطاع الخاص.
وبصرف النظر عما حدث ويحدث فى إيران، فإن الغرب يتعامل بازدواجية مقيتة مع قضية الحرية الدينية، ومع الحجاب تحديدا، والسبب فى ذلك أنه ينظر إلى الحجاب كرمز سياسي لما يطلق عليه ” الأيديولوجية الإسلامية ” أو ” عودة الخلافة “، بينما تنظر إليه المسلمات الملتزمات على أنه من الدين، أو من كمال الدين، والتمسك بالدين وكماله من أعلى مراتب الحرية وحقوق الإنسان المكفولة بالقانون الدولى.
الحرية مبدأ عام لا يتجزأ، حرية لجميع الاتجاهات، لكن الرؤية الغربية إلى الآن مازالت تنتصر للحرية إذا كانت تخدم اتجاها معينا ضد التدين الإسلامى، وإذا كانت تعنى هزيمة الحجاب.
ليس من حق الدولة الحديثة، دولة الدستور والقانون، فرض الأخلاق بالقوة، كما ليس من حقها فرض قيم مغايرة للدين بالقوة، سواء كانت القوة خشنة أو ناعمة، فالحرية مطلب طبيعى، وهى اليوم مرتبطة بحق المواطنة، وكما أن الإعلام الغربى والتيارات اليمينية والعلمانية تصفق للخطوة الإيرانية، فإن عليهم أيضا أن يحتجوا على السياسات الأوروبية التى ترغم النساء على خلع الحجاب، لكننا عندما نرى الابتهاج والتهليل للموقف الإيرانى، والصمت على الموقف الأوروبى، نفهم أن المطلوب ليس تأييد الحريات كمبدأ، وإنما التضييق على الدين واجتثاثه.
لقد تحدث رائد الإصلاح العربى عبدالرحمن الكواكبى قبل أكثر من قرن عن الاستبداد الدينى، مؤكدا أن هذا الاستبداد ” لايخلق مواطنا متدينا، بل يخلق مسلما خنوعا، يخاف من الشرطة، ولا يخاف من الله “.