إن العالم كان يأمل بأن تكون الحرب العالمية الأولى هي الحرب الأخيرة والتي بها تنتهي جميع الحروب إلا إن العالم وجد نفسه متورطا في حرب أخرى بعد فترة زمنية وكانت هذه الحرب اكبر واخطر من سابقتها وهي الحرب العالمية الثانية وبسبب النتائج الخطيرة التي نجمت عن هذه الحرب وما رافقها من انتهاكات لحقوق الإنسان حيث أكد المجتمع الدولي على عزمه وخاصة الدول الكبرى بان لا تسمح أن يتكرر مثل هذا النزاع في المستقبل وبسبب هذا الاستهتار من قبل بعض الدول للشرعية الدولية ظهرت الحاجة إلى وجود سلطة قضاء دولي فاعل ومستقل
لان القوانين وبشكل عام لا تسلم من الخرق سواء كانت داخلية أو دولية الأمر الذي دفع مشرعي تلك القوانين إلى التفكير في ضمانات تكفل احترام تلك القوانين ويبقى العبء الأكبر على من يقع عليه تطبيقه. إن أول تجربة شهدها المجتمع الدولي لإقامة قضاء دولي جنائي كانت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتتمثل هذه التجربة بإقامة محكمتي ( نورمبرغ وطوكيو ) اللتين نشأ معهما القانون الدولي الجنائي على الصعيد الدولي وقد تم إنشاء هاتين المحكمتين من قبل الدول المنتصرة في الحرب وذلك لإقرار المسؤولية الجنائية الفردية على مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي رافقت الحرب العالمية الثانية لذلك تعد مرحلة قيام الأمم المتحدة المرحلة الأولى لنشأة القانون الدولي الجنائي
لان في هذه المرحلة اجتمعت إرادة الدول عن طريق الأمم المتحدة لإنشاء هذا القانون على عكس المراحل السابقة والتي تميزت بانفراد الدول المنتصرة فيها بوضع قواعد تجريمية لمعاقبة المهزومين في الحرب العالمية الثانية وبما إن من مقاصد الأمم المتحدة الرئيسية هي احترام حقوق الإنسان وتعزيزه إذ أنها سعت إلى ذلك من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين لحقوق الإنسان كان لابد لها من إيجاد وسيله أخرى قوية لحماية تلك الحقوق من الانتهاكات
التي قد تتعرض لها ربما في المستقبل ومن هنا كانت نشأة القانون الدولي الجنائي حيث بدأت الأمم المتحدة بتقنين قواعد القانون الدولي الجنائي وكذلك الأشراف على إبرام الاتفاقيات الدولية الشارعة التي تضع قواعد تجريمية دولية تصبح مصدرا لهذا القانون.
وتطورت بعد ذلك مسيرة الأمم المتحدة في إنشاء القضاء الجنائي الدولي الجنائي حيث عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة وأقرت في دورتها الأولى المنعقدة بتاريخ 11/12/1946 مبادئ القانون الدولي الإنساني التي تضمنتها لائحة محكمة نورمبرغ وأوصت اللجنة التحضيرية لتدوين القانون الدولي بضرورة صياغة هذه المبادئ
وان اللجنة لم تنجز هذه المهمة إلا أنها اقترحت إنشاء لجنة القانون الدولي والتي تم إنشائها من قبل الجمعية العامة في دورتها الثانية المنعقدة بتاريخ 21/11/1947 وبسبب هيمنة ماسي الحرب العالمية الثانية وخاصة فيما يتعلق بجرائم الإبادة الجماعية وكذلك المبادئ التي اعتمدتها محكمة نورمبرغ فقد اعتمدت الجمعية العامة في دورتها الثالثة المنعقدة بتاريخ 9/12/1948 الاتفاقية المتضمنة منع جرائم الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها والتي اعتمدت قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بيوم واحد.
يبدو من خلال ماتقدم إن محكمتي نورمبرغ وطوكيو يعتبران النواة والبذرة الأولى والتي انبثق عنها إنشاء القانون الدولي الجنائي حيث شكلت هذه المحاكم سوابق قضائية فيما بعد كما تم اعتماد لائحات تلك المحاكم من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها المنعقدة في 11/12/1946.
وبسبب التقارب بين محكمتي نورمبرغ وطوكيو فقد تم توجيه نفس الانتقادات الموجه إلى نورمبرغ وجهت إلى محكمة طوكيو سواء مايتعلق بجهة الاختصاص وعدم مسؤولية الإفراد ا وان المحكمة لم تحترم مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات وان المحكمة لم تمت من قبل الدول المنتصرة للمهزوم إلا انه رغم الانتقادات الموجه إلى تلك المحكمتين فأنهما يعتبران رصيدا إضافيا للمجتمع الدولي في تطبيق القضاء الدولي الجنائي علما إن تلك المحاكم كانت وقتية حيث انتهت محكمة نورمبرغ عندما أصدرت حكمها بتاريخ 1/10/1946 وكذلك انتهت محكمة طوكيو عند صدور حكمها في 12/11/1948. لقد كان التعامل في القديم جاريا ومألوفا على أن المنتصرين في الحروب العادلة والظالمة
يأخذون نساء المنهزمين سبايا ، ورجالهم وأولادهم رقيقا، حيث كانت تستعمل في المعارك كل
قسوة لكسبها، معتمدة على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة ، ولم يفكر أحد آنذاك بمعاقبة مرتكبي هذه الجرائم الفظيعة، خشية أن يمس ذلك مبدأ سيادة الدولة، و لذلك لم يكن أمام المنهزمين
والمتضررين إلا انتظار فرصة قادمة للثأر. غير أن الأوضاع أخذت تتطور منذ أواسط القرن التاسع عشر، حيث شهد التاريخ العديد من المحاولات التي تهدف إلى تنظيم قواعد الحرب وسلوك المتحاربين ، كما أحس المجتمع الدولي بحاجة ملحة وإنسانية إلى تخفيف ويلات الحرب عن الناس، فتداعت الأمم إلى عقد معاهدة جنيف عام 1864 التي تنص على منع ارتكاب الأعمال الفظيعة إبان الحروب، وتلتها معاهدة أخرى عقدت عام 1899 في لاهاي لتأكيد الأهداف نفسها، وغيرها من الاتفاقيات التي تنص على معاقبة كل من يرتكب أثناء المنازعات المسلحة أعمالا وحشية في حق الإنسان.
لكن أحداث الحرب العالمية الأولى أثبتت أن الوقائع غير النصوص، لذلك فكر الحلفاء المنتصرون على ألمانيا وحلفائها، بمعاقبة الذين أوقدوا نار الحرب وارتكبوا أعمالا إجرامية فظيعة، فكان أول من فكروا بمعاقبته الإمبراطور الألماني “غليوم الثاني”، لكن حال دون ذلك عدة إشكالات قانونية، لاسيما أنه رئيس الدولة، وكانت محاكمته تعني محاكمة الدولة الألمانية خاصة وأنه لم يكن مقبولا آنذاك أن تحاكم دولة على أعمالها، لأن محاكمة كهذه تنتهك سيادة الدولة، وحق السيادة حق مطلق، فضلا عن رفض هولندا تسليم الإمبراطور لغرض محاكمته عن الجرائم التي ارتكبتها بلاده أثناء الحرب بناءا على أوامره،
وهكذا فإن محاولة المجتمع الدولي لإنشاء محكمة خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب العالمية الأولى، كانت أول بادرة أمل في إنشاء القضاء الدولي الجنائي إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل، وكانت سببا أساسيا لإذكاء نار الحرب العالمية الثانية التي كانت أفظع وأعنف من سابقتها. وبالرغم من أن العالم كان يأمل في أن تكون الحرب العالمية الأولى هي الحرب التي ستنهي جميع الحروب، إلا أنه وبمرور الزمن وجد نفسه، متورطا في نزاع آخر أكبر في أبعاده وآثاره ألا وهي الحرب العالمية الثانية. والواقع أن ترسخ فكرة القضاء الدولي الجنائي وبداية التطبيقات العملية لفكرة المحاكمات الجنائية الدولية ثم الشروع في إعداد نظام أساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة هي أهم الأحداث التي يمكن على إثرها التأريخ لميلاد المحكمة الجنائية الدولية. فكيف ترسخت فكرة القضاء الدولي الجنائــــي ؟، وما هي أهم التطبيقات العملية للمحاكمات الجنائية الدولية؟، وكيف تم التوصل في النهاية إلى صياغة النظام الأساسي للمحكمة؟ ويمكن القول أن هذه الأحداث كانت بمثابة نقطة البداية في تطبيقات القضاء الدولي الجنائي على الرغم أنها لم تشكل فعلا تطبيقاً واضحاً له، وضاعت على المجتمع الدولي فرصة نجاح أول تطبيق قضائي دولي جنائي في العصر الحديث. والأكثر من ذلك أن الجمعية العامة لعصبة الأمم حينها قد رفضت منح اختصاص جنائي للمحكمة الجنائية المشكلة في اقتراح البارون « دسكامب » بناء على قرار مجلس العصبة استنادا إلى المادة 14 من العهد، وذلك بحجة أن هذه الفكرة تعد سابقة لأوانها.
ومع ذلك كانت تلك المحاكمات شبه النظرية التي أعقبت أحداث الحرب العالمية الأولى معبرة عن مرحلة متقدمة يتجاوز بموجبها الفكر القانوني مرحلة البحث والايصاء إلى مرحلة التطبيق بغض النظر عن تحقيق تلك التجربة لكل النجاح المنتظر، كما أنها هيأت لتوفير المناخ الفكري والشعبي لإنجاح أية تجربة مقبلة إذا توفرت لها الإرادة والظروف.