لا أذكر بالضبط متى بدأ انشغالي باللغة وإيقاعاتها، لكني أدرك أن اهتمامي باختلاف اللهجات وألاعيب اللسان يلازمني منذ زمن بعيد، حيث ألاحظ بشغف الفروق بين لهجة سكان القاهرة وبين لهجات أهالينا في الصعيد، وأتأمل كيف ينطق الفلاحون الطيبون الكلمات بشكل مغاير عن عن سكان المدن الكبرى، وهكذا.
أذكر جيدًا أنني حين غادرت إلى دبي قبل 24 عامًا انفتحت أمامي نوافذ عديدة لمتابعة هوايتي القديمة تلك، إذ يمتلك سكان قارة آسيا الذين ينتشرون كثيرًا في الإمارات كنزا مهولا من اللغات واللهجات العجيبة التي يخاصم إيقاعها اللغوي إيقاعات اللغات الشائعة عالميًا، وتحديدًا اللغات الإنجليزية والفرنسية والأسبانية، والعربية بطبيعة الحال.
ومع ذلك تظل لغة “المالايالم” أغرب هذه اللغات جميعًا وأكثرها إثارة، وسأشرح ذلك توًا.
في البداية نؤكد أن هذ اللغة لا يتحدث بها إلا سكان مدينة “كيرلاه” فقط التي تقع جنوبي الهند، وعددهم نحو 35 مليون نسمة، علمًا بأن عدد اللغات التي ينطق بها الهنود نحو 26 لغة، غير اللهجات المحلية، كما أن معظم الهنود يمكنهم التحدث بأكثر من لغة من تلك اللغات.
المثير أن لغة “المالايالم” التي تتكون من 56 حرفًا لا يمكن تعلمها على الإطلاق، لأنها تحتاج إلى تدريب جهاز النطق تدريبًا خاصًا جدًا منذ الصغر حتى يتمكن من الاستجابة لمخارج تلك الحروف العجيبة وتشابكاتها وتطويعها لبناء الكلمة ثم الجملة ذات النبرات الشاذة.
الأغرب أن الهنود من خارج مدينة “كيرلاه” لا يستطيعون تعلم تلك اللغة والتحدث بها، ولأنها لغة ذات رنين خاص مزعج، فإن الهنود أنفسهم يسخرون منها، حيث يشبهون رنينها الخاص هذا بالصوت المزعج الناتج عن الاهتزاز العنيف لعلبة مغلقة من الصفيح بداخلها حبّات من الحصى والرمل!.
ليس في الأمر شبهة كوميديا على الإطلاق، فإذا قُدّر لك أن تستمع إلى اثنين من الهنود يتحاوران بـ “المالايالم”، فسيعتريك الذهول لأنك لا يمكن ان تصدق أن ما تسمعه هو كلام يمكن فهمه والتفاعل معه، بل ستقسم أن هذين الرجلين (يبرطمان) كما نقول في مصر.
المدهش أن الواحد إذا تكلم بتلك اللغة لا يفعل مثلما يفعل أي متحدث بأي لغة في العالم، إذ تنطلق الكلمات من فمه بإيقاع ثابت رتيب طوال الوقت، فلا وجود لنبرات مختلفة في الصوت، ولا تركيزا وضغطا على كلمة مهمة أو حرف خاص، ولا فواصل من الصمت بين جملة وأخرى، وكأنك أمام قطار يندفع بسرعة ثابتة في اتجاه المجهول!.
الأعجب أن هناك نحو 30 جريدة ومجلة يومية وأسبوعية تصدر بـ “المالايالم”، علاوة أربع قنوات فضائية يبثها تليفزيون المدينة بهذه اللغة، فضلا عن العديد من الأعمال السينمائية والغنائية.
أما الحرف في لغة “المالايالم” فيتسم بشكل غريب، حيث يلتف ويتلوى على نفسه، لذا من الصعب أن تعرف أوله من آخره!
حقًا… ما أوسع الحياة، وما أضيق أعمارنا.