شهدت العقود الماضية جدلاً فكرياً كبيراً بين مؤيدي ومعارضي تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، لعل أبرزه ما روجته المدرسة الاشتراكية التي منحت الدولة حق احتكار وإدارة النشاط الاقتصادي من خلال التخطيط المركزي، ومن ثم فإنها الوحيدة التي لها حق امتلاك موارد ووسائل الإنتاج وأدواته، بينما تبنت المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية مفهوم الدولة الحارسة،
التي تمارس وظيفة تقليدية تقتصر على مجالات الخدمات الأساسية من دفاع وأمن وقضاء، مع ترك النشاط الاقتصادي للأفراد بصورة جوهرية، إلا أن الاقتصاد الحر القائم على مبدأ “دعه يعمل دعه يمر”، ما لبث أن مرّ بالعديد من الأزمات الاقتصادية الواحدة تلو الأخرى لتهتز ثوابته والركائز التي قام عليها مع أحدث الأزمات التي واجهها، والتي تمثلت في الأزمة المالية العالمية.
ومن هنا عاد الجدل مرة أخرى حول عودة الدولة في ثوبها التدخلي، ولكن بشكل رقابي ومنظم ومتحكم في آليات السوق التي فشلت في أن تصحح نفسها بنفسها.
تعـنى اقتصـاديات العمـل بدراسـة طـريقة أداء سـوق العمـل وتنميـتها وسلوك أصحاب العمل والعمال في استجابتهم للحوافز العامة للأجور والأسعار والأرباح ، والأوجه غير النقدية لعلاقات العمل. فنحن بحاجة إلى مساهمة كل منشئ لفرص العمل والنمو. وأتحدث هنا بالطبع عن مجال الأعمال.
فالأعمال، في نهاية المطاف، تستفيد وجود مجتمع أكثر احتوائية لأن الاحتواء يدعم تحقيق نمو أكثر استمرارية وتوسيع نطاق الرخاء. وأنا أؤمن أيضا أن للأعمال مواصفات فريدة تؤهلها لدعم الاحتواء. وهناك من يتشكك في مصطلح “الرأسمالية الاحتوائية” – البعض يجد فيه تناقضا لفظيا، والبعض الآخر يراه من أدوات العلاقات العامة لمساعدة الشركات على جذب المستهلكين لشراء منتجاتها ومن ثم زيادة أرباحها. وهناك آخرون يرونه انحرافا خطيرا عن مبادئ السوق الحرة.
وتمثل علاقـات العمـل واحـدة من أهم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في حياة الشعوب لذلك فإن فهم اقتصاد العمل هام لنفهم مجموعة كبيرة مــن الأحــداث والسياســات والــبرامج الاقتصــادية والاجتماعــية والتعليمية. كمـا يهـتم اقتصـاد العمـل بالعلاقـة بـين الأجور وفرص العمالة والتفاعل بين الأجـور والدخـل وقـرار الأقـدام عـلى العمـل أو خـيار الوظيفة أو الهجــرة ،
وكذلــك العلاقــة بــين الأجــور والخصــائص غــير المــرغوبة للوظـيفة ، والعلاقـة بـين التعلـيم والإنتاجية، وأثـر اتحـادات العمـال في الأجور والانتاجية ومعدل تغيير العمل. ويهــتم الاختصــاص أيضــاً بالسياســات الاجتماعــية في مجال العمل كتشـريعات الحـد الادنى للأجور والعمل الاضافي ومعاشات التقاعد وشـــروط الصـــحة والســـلامة المهنـــية والضـــرائب وتـــأمين الـــبطالة وسياسات الهجرة …الخ.
يمكن تعريف العمل بأنه المجهود الإرادي الواعي الذي يستهدف منه الإنسان إنتاج السلع والخدمات لإشباع حاجاته، ومن هذا التعريف يتضح لنا أن مجهود الحيوانات أو مجهود الإنسان بغير هدف لا يعتبر عملا. أما سوق العمل فيمثل المؤسسـة التنظيمـية الاقتصـادية الـتي يـتفاعل فـيها عـرض العمـل والطلـب علـيه، أي يـتم فـيها بـيع خدمـات العمـل وشـراؤها (ومن ثم تسـعير خدمـات العمـل). وسـوق العمـل مـثل أي سـوق، تتضـمن بـائعين ومشـترين وقواعـد وأسـعار..، فإنهـا تمتاز بعدد من الخصائص منها:
خدمات العمل تؤجر ولاتباع
خدمات العمل لا يمكن فصلها عن العامل
ظــروف العمــل لا تقــل عــن الســعر(الأجــر) في تفســير قــرارات العــرض والطلب عليه.
الطلــب عــلى العمــل طلــب مشــتق أي هــو طلــب مــن أجــل انتاج ســلع وخدمات يتم بيعها.
كـثرة المؤسسـات والتشـريعات التي تحدد وتنظم آلية عمل السوق (اضافة إلى الحكومة فثمة مؤسسات تؤمن الاتصال بين المشترين والبائعين لخدمات العمل وتحث على تبادل المعلومات واجراء التعاقدات.
ويـتم في السوق تخصيص الموارد البشرية للوظائف عند معدلات أجر محـددة. وإن تخصـيص الأفـراد للوظـائف لـيس حاجـة فـردية فقـط (العـامل ورب العمـل) بـل ومجتمعـية أيضـاً حيـث يتم تخصيص الموارد البشرية بين المنشآت والصناعات والمهن والأقاليم.
ويـتحدد نتيجة لنشـاط السـوق (العـرض والطلـب حسـب المهارات والتعليم وفي اطار البنى والأقسام والتشريعات) عدد من العناصر: حجم التشغيل وتركيبه مستوى البطالة مُستويات الأجور
ويطلـق مصـطلح القـوى العاملـة عـلى جمـيعا لأفـراد العـاملين أو الذيـن يرغـبون في العمـل بأجـر. أمـا الأفـراد الذيـن لا يعملـون بأجـر ولكنهم يرغـبون بالعمل فهم المتعطلون. أما الأفراد الذين لا يعملون ولا يبحثون عـن عمل أو لا ينتظرون العودة لوظائف عمل توقفوا عنها بصفة مؤقتة ، فهم لا يعتبرون جزءاً من القوى العاملة.
يعتـبر الأجـر ثمـن سلعة العمل التي يقدمها العامل إلى رب العمل من خلال عملية الانتاج. والعمـل عنصـر مـن عناصـر الإنتاج وينطـبق علـيه معظـم خصائص التعويض التي تسري على العناصر الأخرى (العرض والطلب والسعر). إلا أنه يتميز مع ذلك بخصائص خاصة منها:
العمل متجسد في العامل لا ينفصل عنه.
العمـل سـريع الفـناء فمـالم يستعمل في وقته ضاع إلى الأبد (سلعة غير قابلة للتخزين)
قــوة الــتفاوض غــير متكافــئة بــين العــامل ورب العمــل (يعوضــها جزئــيا الاتحادات وتدخل الدولة).
لقد مهدت هذه الأزمة الطريق لعودة دور الدولة، ليس فقط كرقيب ومُنظّم لآليات عمل الأسواق، وإنما للعب دور اقتصادي فاعل وموازن ومصحح لقوى السوق. فالمتتبع للمراحل التي مر بها تطور النظام الرأسمالي يتبين له أن تصاعد دور الدولة وتحوله كان وليد الأزمات التي مر بها النظام الرأسمالي، وهو ما اتضح جلياً في ظل الفكر الكينزي إبان الركود الاقتصادي الكبير (1929-1933)، ثم مع الفكر النيوكلاسيكي عقب أزمة الركود التضخمي في منتصف السبعينيات، ثم ما لبث أن عاد مجدداً بعد الأزمة المالية الاقتصادية العالمية الأخيرة.
تجسدت في عصر العولمة فكرة تخلي الدولة عن دورها وإطلاق العنان لآليات السوق، خاصة في أسواق المال التي تركتها الدولة تعمل بمطلق حريتها، فتخلت الدولة عن دورها الرقابي وانتشرت “المشتقات المالية”، التي ابتدعها خبراء المال الناشطون في وول ستريت، وما لبثت أن نشأت “فقاعة مالية” أفضت بالنظام الاقتصادي والمالي العالمي إلى أزمة مالية حادة، بدأت بالأسواق المالية للولايات المتحدة الأمريكية لتمتد عدواها إلى الأسواق المالية في أوروبا، ثم إلى العديد من البلدان الأخرى.
ولا تقتصر هذه الأزمة على البنوك أو النظام المالي فقط، بل تعدتهما إلى الاقتصاد الحقيقي، لتندرج بذلك ضمن سلسلة الأزمات المالية التي ميزت النظام الرأسمالي لأكثر من قرن، والتي زادت حدتها انطلاقاً من سنوات الثمانينيات مع تصاعد ظاهرة العولمة المالية بكل آلياتها من خلال تحرير أسواق رأس المال، ونزع كل القيود المنظمة لها، وتقليص دور الدولة في الحياة الاقتصادية، وكذلك الانفصال الواضح بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد المالي.
إذن، عادت الدولة لتتدخل بشكل أكبر مما توقعه أنصار الرأسمالية المطلقة، فأضحت تراقب وتتحكم في قوانين وإجراءات المصارف الكبرى، وتسعى لتأميم الموارد والقطاعات الحيوية، وتتدخل تنموياً عبر فرض المزيد من الضرائب لإحداث تقارب بين الطبقات، وأخذت تراقب حركة الأسواق والاستثمارات عن كثب، ولجأت إلى تقليل المخاطر المتعلقة بالاقتصاد الوهمي والفقاعات العقارية، وكلها أمثلة تشير إلى أننا أمام موجة جديدة من عودة دور الدولة لتنظيم الاقتصاد عبر الرقابة الصارمة في الحد الأدنى، وعبر التأميم الممكن في الحد الأقصى، ما قد يشير إلى أن الأفكار المطالبة بما يسمى “الليبرالية الاشتراكية” قد تجد لها ممارسات واقعية بعد أزمة 2008.
أخيراً، لقد برهنت الأزمات التي عصفت بالنظام الاقتصادي والمالي العالمي أن هناك حاجة لإيجاد التوازن المفقود في توزيع الأدوار بين الدولة وآليات السوق، خصوصاً فيما يتعلق بتوزيع وتخصيص الموارد وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فبينما يتعين بناء وتقوية المؤسسات الداعمة للأسواق والرامية للارتقاء بكفاءتها، فإن هناك ضرورة لتدخل الدولة لضبط حركة الأسواق وتحقيق العدالة والإنصاف في توزيع الدخول والثروات.