يشعر الجد بالسعادة ممزوجة بالفخر وهو يلاعب حفيده لعبة الشطرنج . فالحفيد يبلغ من العمر حوالي 11عاما ، وتعلمه هذه اللعبة في هذا السن المبكر ينبئ بنبوغه ومستقبلا باهرا بإذن الله . فهذه اللعبة تعتمد أساسا على التفكير والهدوء الصبر وهي صفات لا تتناسب عادة مع سن الطفولة التي يغلب عليها السطحية والحركة والتعجل ، لذلك يطلقون على لعبة الشطرنج لقب ” لعبة الكبار”.
وأثناء التفكير الصامت فوجئ الجد بالحفيد يسأله : اتعلمت الشطرنج امتى وفين يا جدو ؟!. وهنا سرح الجد بفكره مع ألعاب فترة الطفولة في القرية والتي كانت وقتها وكل قرى مصر تغرق في الظلام بعد غياب الشمس لعدم وجود ” النور ” والمقصود هنا خدمة التيار الكهربائي . وكنا وكل أبناء القرى ينتظرون الليالي القمرية ليواصلون اللعب لساعات قليلة على ضو القمر ، حيث كانت القرية تسكن جميعها بعد صلاة العشاء بساعتين تقريبا وتستيقظ مع صلاة الفجر ،وتنشط جميعها مع شروق الشمس . فقد كان من العيب على كبار القرية وصغارها ، رجالها ونسائها ، شبابها وشيوخها أن ينامون بعد شروق الشمس . ولايزال يرن في أذني صوت جدتي وهي تصحينا من النوم صباحا قائلة :” عيب عليكم السمس طلعت وعلت “.
وكانت الألعاب وقتها بسيطة تتناسب مع بساطة الحياة في القرية وهي الاستغماية ، عسكر وحرامية ، والشباب الكبار يلعبون ” الحكشة ” وهي تشبه لعبة الهوكي المعاصرة وهي عبارة عن كرة ثقيلة من الخيش والحبال يتداولها اللاعبون بالعصيان الصلبة القوية. أما الرجال فكانوا يلعبون في وقت فراغهم لعبة ” السيجة ” وهي مجموعة عيون مرسومة بالتراب وأدواتها عدد من الطوب النيئ ( الأخضر ) وعدد مماثل من الطوب الأحمر وتسمى “الكلاب ” وتشبه الى حد كبير لعبة الشطرنج .
وكانت بساطة الألعاب تتناسب أيضا مع مهمة القرية والتي كانت مكرسة للانتاج وتوفير الحبوب والخضروات والفاكهة ومنتجات الألبان لأهلها ولأهل البندر( أي سكان المدن) . وأيضا انتاج المحاصيل الإستراتيجية اللازمة للتصنيع مثل القطن والقصب، والمحاصيل اللازمة للتصدير مثل البطاطس والبصل والأرز والبرتقال وهي محاصيل كانت تنتظرها الأسواق العالمية ، وقد شاهدت ذلك بنفسي خلال سفري لدول بالخليج وأوروبا وآسيا. وأزيد على ذلك أن بعض هذه المحاصيل كان يتم حجزها قبل وصولها.
منذ سنوات دخلت خدمة الكهرباء إلى غالبية قرى مصر ، ويا ليتها لم تدخل . فقد تحول ليل القرية كنهارها ، بسبب الأنوار الكهربائية المبهرة ، وانتشرت المقاهي وأصبح غالبية الشباب يسهرون حتى الصباح ، ويستيقظون من النوم عصرا. وانتشرت “وصلات الدش” التي تنقل الفضائيات والقنوات الماجنة . والمسألة بسيطة فالوصلة بمبلغ قليل شهريا تربط البيت القروي بفضائيات الداخل والخارج، وكل افراد الاسرة يسهرون حتى الصباح أمام الأفلام والمسلسلات العربية والأجنبية وجولات المصارعة الحرة.
والأخطر انتشرت مؤخرا في قرى مصر ” وصلات النت ” وباشتراك بسيط يمكن لكل من يحمل موبايل بالقرية ان يدخل على النت ليشاهد كل ما يدمر القيم والأخلاق والأبدان . ثم الدخول على مواقع التواصل حيث تبادل الحوارات والصور الساخنة بين الشباب والفتيات ، بل وبين المتزوجين والمتزوجات عبر الفيس والواتس، والباقي معروف ويشهد عليه الواقع .
وواقع القرية المصرية المتردي حاليا ، وتحولها من قرية منتجة الى مستهلكة ، حتى أصبحت عاجزة عن توفير رغيف الخبر لأهلها، يكشف عن مؤامرة كبرى تعرض لها الريف المصري وبالتالي مصر بأكملها . والعيب ليس في الكهرباء أو الفضائيات أو النت ، ولكن العيب في سوء الاستخدام ، وقلة الوعي الناجم عن تقييد منابر الوعي ، وعجز الجهات المسئولة عن الرقابة وتعمدها ترك الفضائيات والفضاءات تعرض كل رخيص ومدمر بحرية.
انتبه الجد عندما كرر الحفيد السؤال متى لعبت الشطرنج ياجدوا ؟. فاجاب انه تعلمها في اواخر المرحلة الإعدادية .
ولكن لعبة الشطرنج ذكرت الجد بكتاب خطير قرأه قبل سنوات بعنوان “أحجار على رقعة الشطرنج “. وهذا ما سوف نتناوله في المقال القادم .
Aboalaa_n@yahoo.com