قال تعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا على أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر: 53.
سبحان الله العلي العظيم، ما بين رؤيتنا كبشر للحياة وما بعدها، وما بين استقرار النفس وما يُؤرقها في كل تلك الدورة الأزلية، فحينما نتعمق في تلك الرؤية ونحدد اتجاهاتها في عدد السيئات والحسنات لكسب رضا الله، فإن مقياسنا يكون من خلال العقل البشري المحدد في كل شيء، وأهم من ذلك هو الميزان الذي يمكن أن يميل إلى أي جهة ويكون قرار كل شيء ومصير كل شيء نهائياً لا رجعة فيه، ومبنياً على الكفة التي مالَ إليها، وننسى أن حكم الخالق- عزَّ وجلَّ- تسبقه الرحمة وتحسمه الرحمة التي وسعت كل شيء.
تلك الرحمة التي لم تحدد في أي نوع أو قياس إنما هي أعلى وأكبر من الذنوب جميعاً مطلقة كأفق السماء الواسعة التي لا نعلم لها حداً أو تصوراً فالحمد لله رب العالمين وكم هي أمنيتي فيمن حمّلوا الحديث عن الدين الإسلامي للمسلمين وغير المسلمين أن يكون مرتكز الرسالة هي الرحمة للبشرية جمعاء. ومنها وبها سنسود قلوب العالم قبل جغرافية الأرض وستكون الرسالة شعاعاً بعظمة الدين الإسلامي الحنيف وتكون مركز الثقل للأرض ومن عليها من بشر.
يتردد على السنة الناس قول لطيف ومحبب،وخاصة عندما يجدون انفسهم في موقف صعب امام القضاء سواء عن دين او تهمة ، او كانوا مجرد مشاهدين ، مفاده ان (الرحمة فوق القانون ) ، وهم محقين في ذلك فالرحمة يجب ان تكون فوق القانون كلما كان ذلك ممكنا، لان غاية القانون هي العدالة ، والعدالة،كمفهوم انساني واخلاقي حسب الاصل،
لايمكن ان تتنكر للرحمة وللقيم الخلقية العامة السائدة حتى في اشد الاحوال والظروف قسوة، وقد يكون مصدر هذه الرحمة هو المشرع ذاته عندما يتبنى في تشريعه العقابي ظروفا واعذارا مخففة للحكم او انه يمنح القاضي في تشريعه المدني سلطة تقديرية تمكنه من تقدير ظروف الواقعة القانونية واصدار الحكم الملائم مع روح العدالة ، وقد يكون مصدرها القاضي عندما يفصل في نزاع فيجد نفسه امام حالة خاصة تستدعي الرحمة فيفسر القانون على نحو يستهدف فيه العدالة الحقة ، كلما كانت القاعدة القانونية غامضة تقبل الاجتهاد في التفسير او انها اتاحت له عدة خيارات للحكم كلها في ميزان الشرعية سواء.ولفهم هذه المقولة على نحو واضح،ينبغي التلميح الى التطور القانوني لهذه الفكرة الجوهرية في عالم القانون والعدالة الحقة عبر التاريخ .
الرحمة فوق القانون مطلب انساني قديم جدا ،فقد كانت القوانين القديمة شديدة وقاسية ومجحفة بحقوق الضعفاء ولاتعرف للرحمة طريقا الا في حالات نادرة
واذا كانت القوانين اوالاعراف القديمة تفرض على ابناءها عقوبات قاسية ولاتعترف بالحماية القانونية الا لأفرادها، فأنها في مقابل ذلك لم تعترف للغريب عنها بأية حقوق بل كان يستحل قتله ويستباح ماله ، فبين افراد الجماعات المختلفة ( لم يكن الاعتداء على شخص الغير او ماله جريمة ، ولايجر على صاحبه وزراً ولا عاراً ، بل كان السلب مسلكا شريفا،والاغارة مبعثاً للفخر،والانتقام واجباً تحتمه المروءة ) . وكانت القوانين في اغلب الاحيان سرا من الاسرار لايعرفها الا الكهنة والملوك ورجال الحكم، ولم يكن يسمح للعامة بالاطلاع عليها مطلقاً.
وسارت قوانين اليونان (قانون دراكون ـ 620 ق.م) والرومان القديمة (قانون الالواح الاثني عشر 450 ق.م) على هذا النحو من القسوة ، فكان من حق الدائن ان يسترق مدينه استيفاءاً لدينه او ان يبيعه في سوق المدينة او ان يقتله،واذا كان مدينا لعدد من الدائين كان بامكانهم ،وفقا لتلك القوانين، قتله واقتسام اشلائه، ومن جانب اخر بقي مشهد اعدام المدانين امام الملأ في الشوارع العامة ومن ثم التمثيل بجثثهم امرا مقبولا ولا يجرح المشاعر الى عهد قريب ، وكان من حق الاباء بيع ابنائهم او قتلهم بل ان سلطة الاب تجاه عائلته كانت شبه مطلقة وكذلك كانت سلطة الحاكم ،وكانت مسألة تعذيب الاسرى وقتلهم كوسيلة للانتقام وشفي الغليل امرا مألوفا ايضا.
وفي اطار القونين الجرمانية كانت المبارزة افضل وسيلة لاثبات الحقوق واستحصالها ، ومن ينتصر في المبارزة او يقتل خصمه فهذا يعني انه صاحب الحق الذي لاينازع ، وكانت المبارزة في اول الامر تتم بدون ضوابط وغالبا ماتجر الى نزاعات عائلية اوقبلية ، وفي تطور لاحق اضحت تتم تحت اشراف القاضي .
ان مثل هذا الوضع المأساوي للقانون لم يلق قبولا لدى المفكرين والفلاسفة القدماء والمحدثين على حد سواء، فتمت مواجهته بافكار قانونية جديدة خلاقة بهدف الحد من قسوة القانون وصرامته ،فظهرت للوجود فكرة القانون الطبيعي وتم التمييز بين العدل الشكلي والعدالة الحقة، كما ظهرت فكرة المعايير القانونية كعامل مساعد للتخفيف من صرامة القاعدة القانونية.
وهذا يتطلب ان نلقي نظرة على فكرة القانون الطبيعي ، ومن ثم التمييز بين فكرتي العدل والعدالة . اَمن الفلاسفة الاغريق عموما ، بوجود نظام عقلاني للكون تحكمه قوانين تسير على نسق واحد ، يمكن ادراكها بالبحث العقلاني ، تتكشف لذوي العقول النيرة ،وبأن هذه القوانين الابدية الخالدة هي معيار صلاحية او فساد اي فعل انساني، ومنها القوانين الوضعية والاحكام القضائية والعلاقات الاجتماعية .
ويعد سقراط اول من حول ايجاد معيار ثابت تقاس به خيرية الافعال او شريتها عندما حاول رد الاحكام الانسانية الى مباديء عامة موضوعية تصدق في كل مكان وزمان ، مستمدة من الطبيعة ويمكن الوصول اليها اهتداءاَ بالعقل ، وبحسب وجهة نظر سقراط فان القوانين العادلة انما تصدر من العقل ومطابقة للطبيعة الحقة ، فكانت حقائق ثابتة مطلقة وهي صورة من قوانين غير مكتوبة نقشتها الاله على قلوب البشر ، طاعتها واجبة لانها رمز للعقل الذي ينبغي ان تكون له السيادة .
ان فكرة القانون الطبيعي تتجسد في ان على العقل البشري ان يتمعن في نظام الكون ومنطق الاشياء وطبيعة الروابط الاجتماعية فيستخلص منها هذا القانون الطبيعي ويصوغ قانونه الوضعي على مثاله ، ومثل هذا القانون يكون موضوعيا يحكم الناس على وجه سواء ، دون النظر الى ارائهم الخاصة ومصالحهم الذاتية ، فالطبيعة وحدها هي التي تنأى بالقانون عن القسوة والضيق والنقص والتغيير وعن هوى الفرد وتحكم المشرع ،
وينبغي على القاضي حين يجد نقصاً او قصوراً في التشريع ان يستلهم حكمه من هذه القاعدة الابدية التي تحكم الكون وتضفي بظلالها على الطبيعة الانسانية الصافية .
وهكذا كما توازن قوانين الكون بين الاشياء الضارة والنافعة، والاشياء الوحشية والاليفة، والقحط والوفرة ، توازن العدالة الكونية بين العقوبة والرحمة ، وعلى البشر ان يحذو حذو الطبيعة .
الا ان انصار الوضعية القانونية الحديثة هاجموا فكرة القانون الطبيعي ونجحوا في اضعافهما فترة معينة هجرها في اثنائها اشد انصارها تحمسا لها .
فقد اعترض عليها بانها نظرية مثالية تؤدي الى الحكم على قانونية القاعدة القانونية طبقا لمعيار غير قانوني ، هو الضمير الفردي لكل قاضي مما يؤدي الى اختلاف الاحكام بأختلاف القضاة .
وقيل بأن الاعتقاد ان للطبيعة نظام اجتماعي عادل هو على غرار الفكرة البدائية في الاعتقاد بالارواح ، حينما كان الانسان البدائي يعتقد ان للانهار والنجوم والحجارة والنباتات ارواحا استقرت فيها او خلفها ، قادرة على حمايته وقادرة على ايذائه ، وعلى ذات النسق اعتقد ان الطبيعة تقوم بوظائف تشريعية فتكون هي المشرع الاعلى .
الا ان الفقيه جيني ، جاء بعد ذلك ليعلن في اشهر نظرية وضعها حول تفسير القانون الخاص واصفا القانون الطبيعي ، بانه القانون الذي لايموت .
وفي اطار تلطيف قواعد القانون تم التمييز بين مفهوم العدل ومفهوم العدالة ، ويعود التمييز بين هاتين الفكرتين الجوهريتين الى فلاسفة اليونان القدماء وخاصة ( ارسطو ) ، وكذلك يميز الفقه القانوني الحديث بين العدل (العدل الشكلي القانوني ) والعدالة ( العدل الجوهري، الانصاف ) ، وترتبط فكرة العدل بالقاعدة القانونية بينما ترتبط فكرة العدالة بالمعايير القاونية .
يفيد العــدل (( Justice معنى المساواة،وهي مساواة مرتبطة بالدور الاجتماعي للقانون، فالمفروض ان يطبق القانون بمساواة جميع الاشخاص والحالات التي يتناولها في مركز قانوني معين ولغرض معين بالذات وللهدف الذي يرمي اليه ، فالمثل يعامل كمثله،وغير المتساويين لايلقون معاملة متساوية ، ويتحقق ذلك من خلال قواعد قانونية عامة مجردة تطبق على الجميع بنزاهة ودون محاباة،ويقتصر دور العدل الشكلي هنا على بيان أن الاجراءات كانت عادلة لان احدا لم يستثنى او يستبعد بشكل غير عادل من تطبيق القانون ، لافرق بين ام تسرق لأطعام اطفالها الجياع وبين من يسرق لأرضاء ملذاته وشهواته،مثلا،لأن العدل القانوني يعتد بالوضع الغالب الظاهر لا بالوضع الداخلي الخاص للمخاطبين بحكمه
ولذلك شكك فلاسفة القانون في اعتبار العدل الشكلي وسيلة للحكم العادل بين انسان واخر ،لان الطبيعة العامة والمجردة للقاعدة القانونية تعني انه لايمكن ادراك كل حالة فردية بخصوصياتها ، ولهذا فان العدل الشكلي بما يحققه من مساواة شكلية قد يضغط على الحالة الفردية فتكون ضحية من ضحايا ذلك العدل الشكلي.
اما العدالـــــــة (Equity ) فتفيد معنى الانصاف ، فقد صور ارسطو اساس العدل العام في المساواة الذي توفره القاعدة القانونية ، الا انه وضع يده على فكرة المعيار القانوني عندما لاحظ صعوبة تطبيق القاعدة القانونية على ما اسماه الحالات المستعصية،وهي تلك الحالات التي يؤدي تطبيق القاعدة القانونية عليها الى نتائج ظالمة، فنبه الى مصحح لجمود العدل القانوني، الا وهو العدل الخاص،والعدل الخاص يعطيه ارسطو اسما خاصا هو (Equite) اي الانصاف او الملائمة او العدالة.
وتعني (العدالة) في معناها الخاص،ايجاد معاملة خاصة للحالات الفردية الخاصة بالتخفيف من حدة وصرامة عمومية القاعدة القانونية، والعدالة بهذا المعنى، هي معيار لتشذيب عدم التناسق وعدم المساواة وايجاد التوازن والتساوي بغية اصلاح ماهو ظالم وغير معقول حينما يطبق العدل القانوني المجرد.
والعدالة وفقا للمعنى العام لها، تعني الشعور بالانصاف وهو شعور كامن في النفس يوحي به الضمير النقي ويكشف عنه العقل السليم وتستلهم منها مجموعة من القواعد تعرف بأسم قواعد العدالة مرجعها مثل عليا تهدف الى خير الانسانية بما توحي به من حلول منصفة ومساواة واقعية تقوم على مراعاة دقائق ظروف الناس وحاجاتهم.
ويقتصر هدف القانون على تحقيق العدل وليس تحقيق العدالة ، فالعدل والعدالة كلاهما يقوم على المساواة بين الناس ، الا ان المساواة التي تقوم عليها فكرة العدل هي مساواة مجردة تعتد بالوضع الغالب دون اكتراث بتفاوت الظروف الخاصة بالناس ، اما العدالة ( الانصاف ) فتقوم على مساواة واقعية على اساس التماثل في الاحكام المنصرفة للحالات المتماثلة شروطها أو الاشخاص المتشابهة ظروفهم مع مراعاة البواعث الخاصة وتفاصيل الظروف .
وفي هذا اطار اضفاء المرونة على قواعد القانون،ميزفلاسفة القانون بين القاعدة القانونية والمعيار القانوني.
فمن الناحية الفلسفية ، يرتكز تطبيق القاعدة القانونية على الذكاء (العقل) بينما ترتكز سلطة التقدير التي تنطوي علىتطبيق المعايير على حسن الادراك (الحدس) وعلى حد قول برجسون ، يناسب الذكاء اكثر ما يناسب الجمادات ( رياضيات ، معادلات ، منطق …) بينما يناسب حسن الادراك والحدس اكثر مايناسب الافكار الحيوية (الشعر ، الادب ، الفنون …) فالادراك اكثر مناسبة للحياة .
اذ يتميز الذكاء بقدرته على فهم العامل العام في وضع من الاوضاع وربطه باوضاع سابقة للخروج بنتيجة منطقية، فيقدم لنا الذكاء على هذا النحو معرفة بعموميات صفات الاشياء ، اذ هو يجرد موضوعاته من من مضمونها الحي الملموس لكي يحولها الى صيغ وارقام ومعادلات جامدة ، وتنطوي هذه القدرة على فقدان القابلية على معرفة الحالات الخاصة معرفة تامة، اذ ان مثل هذه المعرفة يتحكم فيها الاراك (الحدس) لانه ينفذ بنا الى العمق الباطن للاشياء لنعرف بذلك ماهو فريد منها .
ومن حيث الطبيعة تتسم القاعدة القانونية بالتحديد والثبات لانها تنطوي على فرض محدد يتضمن واقعة يفترض انها ستقع في الحياة الاجتماعية ، وحل او حكم هو عبارة عن الاثر المترتب على حدوث تلك الواقعة .
اما المعيار فهو موجه عام يضع الخطوط العريضة التي توجه سلوك القاضي ويتيح له سلطة تقديرية واسعة عند اعمال القاعدة القانونية،وعليه فان ليس للمعيار نفس تحديد االقاعدة ، اذ يكتفي المشرع في تقريره بالاحالة الى اصل خارج عن نطاق القانون، مثل سلوك الرجل المعتاد ، او النظام العام والاداب العامة .
ومن حيث المجال القانوني ، فحيث تكون الاجراءات الية وحيث تتغلب دواعي الاستقرار والثبات للمراكز القانونية عن طريق توحيد الحلول فان المشرع يلجأ لاسلوب القاعدة القانونية العامة المجردة التي تطبق ، الى حد ما ، تطبيقا اليا منطقيا فتعطي حلا موحدا لحالات غير متناهية او كما قيل ( عدالة بالجملة ) ، ومنها تحديد سن الرشد وحقوق المالك ، والحصص الارثية ومدد التقادم ،وغيرها ، اما اذا كانت دواعي الانصاف هي الغالبة فيلجأ المشرع الى طريقة المعايير ، ذلك ان تطبيق المعايير يعتمد على التجربة وينحو نحو تفريد العدالة ، وعن طريق مرونة مصطلحاتها وتنوع حلولها فانها تسمح بتلطيف القانون .
ويعبر الفقيه ستاتي عن ذلك بالقول ( ان عمل القاعدة القانونية مثل عمل الالات والمكائن ، نموذج صناعي متكرر ، فكل صك هو كأي صك اخر، وكل سند ملكية هو كاي سند ملكية اخر، ونجد في توزيع الحصص الارثية تكرارا للاوضاع والظروف منذ ان وجد قانون الارث ، اما عمل المعيار فهو مثل عمل الايدي ، يد العامل الحاذق ، وفي القانون تتطلب بعض الحالات عمل الايدي وليس نتاج المكائن والالات ، اذ ان عمل الايدي لاينطوي على تكرار بل على امور فريدة ودقيقة وتكون الاهمية فيها للظروف الخاصة ، لانه في اطار السلوك الفردي لم تتماثل حالة اهمال مع حالة اهمال اخرى ولن تتماثل ابدا.
فاذا اعتبر العدل كتجسيد لقاعدة المساواة الشكلية الصرفة فانه يعبر عن حكم منطقي يقوم على المساواة المجردة ، وهذا ما يلائم القاعدة القانونية العامة المجردة ، واذا ما طبق بانتظام فانه لايمكن ان يتناقض مع نفسه .
اما العدالة فتناسبها فكرة المعايير لانها لاتعمل بصفتها تعبيرا عن حكم منطقي بل بتشكيل ذاتها في صورة القضية الفردية ونظرا لعدم وجود شكل محدد لها فانها تشبه العمل الاخلاقي الذي هو عفوي وغير محسوب له بعناية ويهدف الى اغاثة شخص يتألم دون اعتبار لقواعد محددة .
ويمكن ان ينظر الى العدل الشكلي كأمر غير عادل اذا ما استجاب لمقتضياته ولكنه يفشل في اتخاذ قراراته بروح العدالة فيكون تجسيدا لظلم فادح ومن هنا لايكفي ان يتفق نظام قانوني مع خصائص العدل الشكلية وان كان هذا القانون يطبق بمساواة وبروح النزاهة ، ذلك ان القانون يحتاج ان يكون محتواه عادلا اي ان يعبر عن روح العدالة.
تطبيقات فكرة الرحمة فوق القانون
ان اهم شريعتين سائدتين في عالم اليوم ، بالنسبة للقانون الوضعي، هي الشريعة اللاتينية التي استمدت من احكامها القوانين الفرنسية وتبعتها اغلب قوانين الدول العربية ويعتبر القانون الطبيعي هو المصدر الاحتياطي لاحكامها على الاغلب الى جانب قواعد العدالة،والشريعة الانكلوسكسونية التي استمدت منها قوانين انكلترا وامريكا وبعض الدول ومنها السودان خلال فترة من الزمن، وتعتبر قواعد العدالة المصدرالاحتياطي لاحكامها . وتعتبر الشريعة الاسلامية الغراء مصدرا للكثير من احكام القانون المدني والاحوال الشخصية في البلاد الاسلامية.
اخذت فكرة الرحمة فوق القانون تنمو تدريجيا مع تشذيب الاخلاق الانسانية بمرور الزمن والانتقال من مرحلة شبه البداوة الى عصر الاستقرار والزراعة(5)، وفي ظل قانون دراكون اليوناني طالب العامة الكهنة والحكام بنشر القانون ، ونشر القانون فعلا وعندها اكتشفوا كم كان قانونهم شديدا وقاسيا ومجحفا بحقوق الضعفاء ، ولم تمض عشرون عاما حتى شرع قانون اخر هو قانون صولون(600 ق.م ) للتخفيف من قسوة قانون دراكون ، فقد اعترف القانون الجديد بحقوق الابناء وحرم الربا الفاحش وحرم التنفيذ على شخص المدين عند عدم الوفاء بالدين وذلك بمنع بيعه او قتله ، وحرم قتل الابناء او بيعهم وقضى بتحرير الابن من السلطة الابوية ببلوغه سناً معينا والغى حصر الارث بالابن الاكبر .
وتدريجياً نفذت الفسلفة اليونانية الى الحياة الرومانية بفضل البريتور( منصب قضائي) ،وكان له الفضل في تحرير القانون الروماني من معظم شكلياته ، وبذلك انتقل القانون الروماني من مرحلة جموده وحدته وقسوته الى مرحلة جديدة من المرونة والبساطة والحكمة فتحت الطريق امام قواعد جديدة ومبادي مستحدثة ومنهاج جديد في التحليل واحكام قانونية لم يكن للرومان عهد بها من قبل ، ويعلق شيشرون على ذلك الاثر بقوله ( لم يكن منشأ الفيض الذي اقبل من بلاد اليونان الى مدينتنا مجراً صغيراً،بل منشؤه نهراً خضماً من الثقافة والعلم والفلسفة ) ،
وهكذا تدريجيا بدأت احكام البريتور تدون فنشأ مايسمى بالقانون القضائي(البريتوري) ليحل تدريجيا محل قانون الالواح الاثني عشر (509 ــ 130) ق.م ، فقد كان الاخير قانونا قاسيا شكليا جامدا وكان الحق بموجبه يسقط لمجرد ان المدعي لم يتفوه بعبارات معينة ، فقد وضع اصلا ليحكم مجتمعاً صغيراً شبه بدوي يعيش على الزراعة . الا ان البريتور وبمرور الزمن تمكن بعض الشيء وبوسائل معينة من تحرير ذلك القانون من بعض قسوته وجموده وذلك من اجل حماية حق او حماية حالة من حالات الضعف الانساني لايحميها القانون ولأكمال ما يعتريه من نقص ومن هذه الوسائل الاوامر البريتورية والتمكين من الحيازة ورد الشي الى اصله فضلا عن اللجوء الى الحيلة القانونية وهي افتراض القاضي لامر مخالف للواقع للتوصل الى تغيير احكام القانون دون التعرض الى نصوصه ، من صور الحيلة القانونية التي لجأ اليها القاضي الروماني ، مايعرف بالدعوى البوليكانية ،
حيث ان قانون الالواح الاثني عشر كان ينص على ان ملكية المبيع لاتنتقل للمشتري الابعد مرور سنة في المنقول وسنتان في العقار، فاذا تعرض المبيع قبل انقضاء هذه المدة للسرقة او الاغتصاب فلا توجد حماية للمشتري لانه لم يعد مالكا بعد ، فتدخل البريتور ووفر هذه الدعوى له ومن خلالها يفترض البريتور ان المدة قد مضت، رغم انها لم تمض حقيقة، ومن ثم يحكم له بأنتقال ملكية المبيع بمجرد الشراء .
وذهب الفقهاء الرومان بتأثير الفسلفة الاغريقية الى القول بأن (الافراط في التطبيق الحرفي للقانون اغراق في الظلم ) ومعنى ذلك انه اذا ادى تطبيق القانون حرفيا الى الحرج والعسر والقسوة فيصار الى تطبيقه بشيء من المرونة والرحمة باستيحاء الحكم من روح القانون لا من مفهومه الحرفي .
وكان البريتور يطور احكام القانون من خلال ما يعرف بالمنشور البريتوري الذي يتضمن المباديء والقواعد التي سيتبناها اثناء ممارسته لمنصبه القضائي ، وجاء في منشور لبريتور من العصر الذهبي للقانون الروماني وهو العصر العلمي (130ق.مـ 284م) مانصه ( لن اعتبر صحيحا ماتم تحت الرهبة ) ومعيار الرهبة عند البريتور ، هو معيار الشخص الثابت الجنان ، اي ان من شأن الرهبة ان تدخل الروع في قلب القوي ، فلا يحمي البريتور الجبان .
وفي ظل الشريعة الانكلوسكسونية ، كانت المحاكم الملكية تطبق قانون الاحكام العام وتتقيد بالتطبيق الحرفي لنصوصه حتى وان لم يؤد ذلك الى تحقيق العدالة والسبب في ذلك يعود الى ان مصادر هذا القانون وهي العادات والتقاليد والسوابق القضائية، اذ صلحت في ظروف معينة، فقد لاتصلح في ظروف اخرى .
وازاء هذا الوضع شعر الناس بالظلم والاجحاف الذي يرتكب باسم تطبيق القانون واخذوا يرفعون دعاواهم الى الملك مباشرة والذي اخذ يحيلها بدوره الى مجلسه الاستشاري للبت فيها وفقا للقانون العمومي اذا وجد ان ذلك يحقق العدالة والا فانه كان يقضي بما يقتضيه العقل والضمير ، وتطور الامر في القرن الرابع عشر الى تشكيل محكمة سميت اولا محكمة الضمير نسبة الى ضمير الملك ،ذلك ان السند الفلسفي لمباديء العدالة لدى الانكليز لا يستند على مفهوم القانون الطبيعي بل على اساس اخر هو حق الملك في اقامة العدل بين رعاياه وكان الانكليز يقولون ( ان العـــدالة تسـيل مـن ضميـر الملـك ) ، وسميت هذه المحكمة بعد ذلك بمحكمة العــدالة .
وكانت محاكم العدالة تستند في احكامها الى ماتمليه اعتبارات الفهم الصحيح للامور وما يراه القاضي اكثر حقا وعدلا ومعقولية بغير مراعاة ضوابط القانون العام .
وادخلت في العصور الحديثة على فكرة القانون الطبيعي التقليدية العديد من التعديلات نأت بها عن التطرف والبستها ثوب المثالية الواقعية ، بحيث تحتفظ في ذات الوقت بدورها كموجه مثالي للمشرع والقاضي ، ومفاد ذلك ان القانون الطبيعي لايضع قواعد وحلول تفصيلية لمشاكل العلاقات الاجتماعية، انما هو موجه مرن هو اقرب الى دعوة المشرع الى الالتزام بحد ادنى من المثل العليا ولكنها لاتضع على عاتقه قيدا تفصيليا محددا ، اما بالنسبة للقاضي فتأثيرها عليه اكثر عمقا ذلك لانه ملزم بالرجوع اليها عندما لاتمده مصادر القانون الاخرى بحل للنزاع المعروض عليه، والمشرع حينما يحيل القاضى الى قواعد القانون الطبيعي او قواعد العدالة انما يلزمه ان يجتهد برأيه حتى يقطع عليه سبيل النكول عن القضاء ،لان نكوله يعد ارتكابا لجريمة انكاراً للعدالة ، وهذه القواعد تقتضيه ان يصدر اجتهاده عن اعتبارات موضوعية عامة لا عن تفكير ذاتي ضيق،ولذا درجت التشريعات الحديثة على الاحالة الى قواعد القانون الطبيعي او قواعد العدالة او مباديء القانون العامة .
حيث نصت المادة (1) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951النافذ على انه:
(1ـ تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها اوفي فحواها . 2ـ فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكمت المحكمة بمقتضى العرف فإذا لم يوجد فبمقتضى مباديء الشريعة الاسلامية الاكثر ملائمة لنصوص هذا القانون دون التقيد بمذهب معين فإذا لم يوجد فبمقتضى قـواعـــد العـــدالة .) بينما احال القانون المدني المصري القاضي الى قواعد القانون الطبيعي ، عند فقدان النص .
ان التمييز بين فكرتي العــدل والعدالــة والقانون الطبيعي ،هو السبب في ان كل الانظمة القانونية شعرت بالحاجة الى اصلاح صرامة القانون من خلال اعتماد المعايير القانونية والدعوة الى تفسير القانون بروح العدالة بدلا من التركيز على حرفية النصوص عندما يشعر القاضي ان الظلم بعينه يتحقق لو طبق القانون بحذافيره وهذه الحالة نجد تعبيرها في القول المأثور( الرحمة فوق القانون ) الذي لايعني الا أن على القاضي ان يطبق القانون بروح العدالة .
(1) : لاتعد الصياغة القانونية الغامضة عيبا تشريعيا دائما، فهي من عوامل تطوير القانون وملائمته مع التطورات المستقبلية الحادثة بعد التشريع ، فقد استند القضاء الفرنسي وتبعه القضاء المصري في ذلك الى العديد من المواد القانونية الغامضة فأدخلوا من خلالها الكثير من النظم القانونية الحديثة الى النظام القانوني حتى تلك النظم التي لم تكن موجودة وقت تشريع القانون اصلا مثل نظرية تحمل التبعة ونظام الاثراء بدون سبب التي لم ينص عليهما القانون المدني الفرنسي اصلا ، وهكذا فسروا القواعد الغامضة على نحو يساير روح العصر ،وجاء على لسان رئيس محكمة النقض الفرنسية (باولو) قوله بمناسبة الاحتفال بالعيد المئوي للقانون المدني الفرنسي في 9 اكتوبر سنة 1904 مخاطبا القضاة ( عندما يكون النص غامضا عندها تنهض شكوك في معناه ومداه عندما يتعارض او يتسع او يضيق بمقابلته مع نص اخر ، ارى للقاضي حينئذ اوسع صلاحيات التفسير فعليه عدم ضياع وقته في التحري عما كان عليه تفكير واضع القانون المدني عند تشريع هذه المادة او تلك منذ مئة عام ….
وعليه ان يقول بان العدالة والحكمة يقتضيان بتكييف النص بحرية وانسانية تبعا لحقائق ومتطلبات الحياة الحديثة وذلك بالنظر للتغييرات التي جرت في الافكار والاخلاق والمؤسسات وفي الحالة الاقتصادية والاجتماعية في فرنسا منذ قرن ).
(2) : انتقد البعض قانون حمورابي (1694 ق.م) الرائد بالقول انه تضمن احكاما قاسية جدا في بعض احكامه ووصفوه بالبدائي جدا وانه لم يتضمن مباديء قانونية عامة بل تفاصيل لحالات واقعية، ولكنها كلمة حق يراد بها باطل ،فانه وان تضمن احكاما قاسية الا انه تضمن احكاما متطورة لم تتوصل لها البشرية الى يومنا هذا وما برحت تسعى الى نيلها ،من ذلك ما نصت عليه المواد (23،24) من قانون حمورابي من انه ( ان من وقع ضحية السرقة في حالة عدم ضبط الجاني واسترداد المسروقات ، يعوض من قبل اهل المدينة والحاكم الذي وقعت السرقة في ارضه ، فان كانت نفس قد فقدت اثناء السرقة فعلى المدينة والحاكم ان يعوض اهله ) ونصت المادة (148) منه على انه ( ليس للزوج ان يطلق زوجته المريضة بل عليه ان يعيلها طالما هي على قيد الحياة ولكن له ان يتزوج باخرى )
كل هذا قبل ما يقرب من اربعة الاف سنة ، اما المباديء العامة فلا تتولد الا بعد نشوء القانون ولا تسبقه حتما ، فما المباديء القانونية العامة الا هي مجموعة قواعد استقرت عليها القوانين خلال عهود طويلة من الزمن فاصبحت ذات طبيعة الزامية ولو لم ينص عليها القانون، مثل مبدأ شخصية العقوبة ، ومن ثم لايمكن مطالبة من اوجد القانون وقدمه للبشرية ان يوجده كاملا ، فحسبه فضلا انه اوجده .
(3) : ويحضرني مثال واقعي في هذا المجال ، حيث كنت حضرت تحقيق مع احد الموظفين الكبار كان قد اتهم برشوة واختلاس اكثر من ملياري دينار عراقي ، وبعد ايام من ذلك تم التحقيق عن جريمة رشوة مع احد افراد الشرطة بشأن علبة كولا اشتراها له احد المتهمين اثناء احضاره من مركز الشرطة الى المحكمة فقام احد المواطنين (الحريصين) بالابلاغ عن ذلك .
(4) : الحدس ، نوع من المعرفة سابقة للاستنباط العقلي،فهو الادراك المباشر الذي لايحتاج الى استدلال منطقي او استنباط بل يأتي مرة واحدة ومباشرة الى الذهن وبصورة كاملة من اول لمحة (الهام) ، والادراك ان وجد لدى الناس جميعا الا ان حسن الادراك يتطلب تجربة من نوع خاص يصعب نقلها او تعليمها او تلقينها للاخرين عن طريق الوصف ، وبالذكاء او بالحدس يتميز بعض الناس عن الناس الاخرين.
(5) : ساهمت الزراعة في تطوير الاخلاق الانسانية ومنها الرحمة والرأفة ، فقد كانت الاقوام البدوية تفضل السلب والنهب لانها لاتملك الا القليل من الاشياء لتخاف عليه ، اما المزارع الذي يشقى في حرث وزرع ارضه فيهمه جدا ان تكون هناك قواعد اخلاقية تحميه وتردع غيره ، حتى لا يأتي احد وعلى غفلة منه او بالقوة ليسرق جهد سنته الزراعية .
يثار موضوع السلطة التقديرية التي يتمتع بها القاضي لتكييف الدعوى وصياغة الأحكام، فالعام ينادي بالرأفة في استصدار الأحكام لما يتمتع به القاضي من سلطة تقديرية.
وعلى القاضي يقع عبء إعمال الضمير وتطبيق القاعدة القانونية لصياغته نص الحكم، فيكون بذلك مرتاح الضمير، ففي فرنسا يختص القاضي بتطبيق القاعدة القانونية على الواقعة مراعيا بذلك مبدأ العدالة الممزوج بالرحمة. وفي لبنان خرج الحكم الشهير من محكمة الاستئناف الذي أعطى الأم حق منح الجنسية للطفل، مخلفا وراءه خلطا للأوراق ومزجا بين الرحمة والعدل والعدالة واستبعاد القانون. خرج القاضي واستراح، وسطر حكما اصبح لغزا في نظر القانونيين.
وضع القاضي نصب عينيه ثلاثة أمور، أمرها أمر بالنسبة له: القانون لرفض الجنسية للطفل من أم لبنانية وعدالة المنطق لمنح الجنسية لطفل ولد على ارض لبنان من أم لبنانية وأب اجنبي توفاه الله وعدل القاضي من اعطاء الطفل هوية يتجول بها ويتعلم بها، تعرف عنه ويعتاش عليها، لا يكون غريبا في وطنه ولا يكون مظلوما ذنبه انه ولد في لبنان. قدم العدالة على العدل وقدم العدل على القانون وخرج من القضاء مرتاح الضمير، خاتما بذلك مسيرته في القضاء بحكم اشعل أقلام الكتاب وأعاد للباحثين رونق البحث العلمي بأن كل المواضيع التي بحثت في الماضي من الممكن ان تبحث من جديد وبأوجه أخرى تحت عنوان العدل والعدالة.
وهذا الموضوع يستدعي التمييز بين مفهوم العدل ومفهوم العدالة، وكان فلاسفة اليونان اول من وضع اسسا لهذه النظرية التي توحي بأنها اشكالية تواجه القاضي عند صدور الحكم، ثم دخل مؤخرا العدل الشكلي والعدل القانوني وترتبط فكرة العدل بالقاعدة القانونية بينما ترتبط فكرة العدالة بالمعايير القانونية، وبين هذا وذاك فرق كبير، فالعدل اساس والعدالة مطلب، وما بين ذلك وذاك تقع الرحمة التي يشتهيها المظلوم الذي شاءت الظروف أن يكون في المكان والزمان الخطأ.
فلو أخذنا بالعدل وطبقنا العدالة وارحنا ضمير القاضي من عبء الإجراءات لكان العدل طبق والعدالة اخذت مجراها واستراح القاضي من تأنيب الضمير، فيما لو اقتنع ببراءة شخص في قضية ورط نفسه فيها بسبب طيشه او في لحظة تخل. فإذا كان العدل أساس الملك والعدالة أساس القضاء، فإنه من الضروري ان يترك المجال للرأفة بالأولى بين الناس والرأفة في الثانية بين التائبين أوليس الرحمن غفور رحيم؟!