أن الفتوى تُعد أهم سلاح للتنظيمات الإرهابية تُشهره في وجه المخالفين لهم، ليس في الرأي فقط بل في العقيدة أيضًا، والذي يرون دائمًا أن الحل الوحيد لهذا المخالف هو القتل، مما يبرر قتلهم للمسلمين والمسيحيين على السواء. لئن تواتر الحديث عن ضرورة تجديد الخطاب الديني في الثقافة العربيّة الإسلامية خلال بعض المنعرجات التاريخية الحاسمة، فإنّه ظلّ في أحيان عديدة دعاية أبعد ما تكون عن الصياغة المتأسّسة على أسس معرفية وأخلاقية صلبة متينة.
إذ غالبًا ما يثبت أنّ ذلك الحديث عن تجديد الخطاب الديني لم تكن غايته إلاّ احتواء الضغوط الخارجيّة خاصّة والإيهام بالانخراط الطوعي في منظومة القيم الكونية بدليل أنّه يتمّ تغييب الطرح الجاد للإشكاليات الأساسية التي من الممكن أن تسهم في مراجعة نقدية للخطاب السائد. وتعدّ في هذا المضمار مسألة الفتوى وتراوحها بين منطقي الدين والسياسة من الإشكاليات الهامّة التي لا مناص من طرحها طرحًا علميًّا يأخذ بعين الاعتبار العناصر المشكّلة لها وأبعادها المختلفة.
وذلك ليس لهيمنة الفتاوى على الخطاب العربي الإسلامي المعاصر والراهن، وإنّما لسببين آخرين على الأقلّ: يتعلّق السبب الأوّل بعمق ترسّخ ما يمكن أن نسمّيه بـ “التديّن الشعبي” في وعي الشخصيّة العربيّة الإسلامية ومخيالها إلى حدّ أنّه يتمّ الاهتمام بالفتوى أكثر من الحكم القضائي في بعض الحالات. بينما يرتبط السبب الثاني بخطورة “سلاح الفتوى” على استقرار المجتمعات وأثره في توجيه السياسات. واستنادًا إلى كلّ ذلك فإنّنا سنعالج في هذا هذه القضيّة معالجة معرفية بالانطلاق من تحليل المنطق الديني ثم المنطق السياسي للفتوى فأوجه العلاقة بين المنطقين وأبعادها.
وأظهر المؤشر العالمي للفتوى للعام 2018 أن 60% من الفتاوى الصادرة بحق المسيحيين على مستوى العالم صدرت من قبل جهات وشخصيات غير رسمية، وكان 95% من جملة هذه الفتاوى في أغلبها مضطربة نظرًا لأنها صدرت عن جهات لا تمتلك منهجًا علميًّا منضبطًا، وأن القائمين عليها غير مؤهلين ولا متسلحين بالعلم الشرعي.
فتاوى مفخخة لقطع الرؤوس:
أما ما يخص فتاوى تنظيم داعش الإرهابي فقد أكد مؤشر الفتوى العالمي أن 30% من جملة فتاوى داعش صدرت بحق المسيحيين، وأن 100% من جملة أحكام هذه الفتاوى تحض على العنف ضد المسيحيين، حيث دأب التنظيم على إصدار الفتاوى المفخخة والتي تحض على قتالهم، كان من أبرزها فتوى اعتبارهم ليسوا أهل ذمة؛ وبالتالي يجب قتالهم وهدم كنائسهم وعدم ترميمها، وعدم توليهم مناصب داخل الدولة، وتكفير الحاكم الذي لا ينفذ هذه الأمور.
أن هذا يبرر الجريمة النكراء التي أعلن التنظيم مسئوليته عن ارتكابها مؤخرًا بالمنيا، ويبرز عقيدة هذا التنظيم الملوثة بدماء الأبرياء، وأن منظري التنظيم قد أسَّسوا لما يُسمى فقه الدماء، فأبوعبدالمهاجر في كتابه «مسائل في فقه الجهاد» قال: «إن قطع الرءوس بوحشية أمر مقصود بل محبب إلى الله ورسوله» وقال أبوبكر ناجي في كتابه «إدارة التوحش»: «نحتاج إلى القتل ونحتاج لأن نفعل كما حدث مع بني قريظة، فلا بد من اتباع سياسة الشدة بحيث إذا لم يتم تنفيذ المطالب يتم تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذف الرعب»، في إشارة إلى قتل المخالفين معهم في العقيدة.
أحكام تشرعن للقتل وسفك الدماء:
أن الأحكام الشرعية التي كانت تسيطر على فتاوى المتشددين ضد المسيحيين كان تدور حول (حرام – كفر – غير جائز – واجب) حيث جاء حكم (تحريم) التعامل معهم في كافة المعاملات بنسبة 50% من جملة الفتاوى المتشددة على مستوى العالم، تلاه الحكم بـ(الكفر) بنسبة 20%، و20% غير جائز، و10% واجب.
أن أحكام (الحرام والتكفير وعدم الجواز) تمثل 90% من جملة الأحكام الصادرة في الفتاوى بحق المسيحيين، والتي كان مدارها على حرمة التعامل والحض على الكراهية والعنف ضد المسيحيين، مما يبين الخلل الذي أصاب عقلية مصدري هذه الفتاوى، واضطراب فهمهم للنصوص الشرعية، وتوصيفهم الخاطئ للوقائع، وتطبيقهم الخطأ للقواعد الفقهية، وبالتالي في ظل هذا الاضطراب تخرج الفتوى مشوهة وقاتلة ومغلفة بالدماء.
التحريم يسيطر على أشكال التعامل:
ان استحواذ فتاوى العبادات والمعاملات على 55% من الفتاوى الصادرة بحق المسيحيين، تلاهم فتاوى الشؤون والعادات والتي شكلت 15%.وكان من أبرز الفتاوى التي تسببت في تأجيج الصراع والفتنة فتوى «تحريم قبول هدايا النصارى في أيام عيدهم»، و«تحريم تهنئتهم بعيدهم» و«تحريم الأذان داخل الكنيسة»، و«النهى عن توصيل نصراني للكنيسة بالسيارة أو مساعدته»، و«النهى عن ترديد شعار الوحدة الوطنية الهلال والصليب» وغيرها.
القواعد الفقيهة التي يعتمد عليها المتشددون في إصدار فتاوى غير منضبطة ومفخخة، والتي كان من أبرزها قاعدة «الولاء والبراء» وهي القاعدة الأساسية في المنهجية التكفيرية، وقاعدة «تقسيم الناس إلى فسطاطين الحق والباطل» وهي القاعدة التي نهى بها البعض عن التعامل بأي شكل من الأشكال مع غير المسلمين.
وفي ذلك الإطار، أوصى المؤشر بتوسيع دائرة الانضباط الفقهي، وإنشاء نوافذ إعلامية بصورة أكبر للحديث عن الآيات القرآنية الخاصة بالجزية والتعامل مع غير المسلمين، وتبيان بعض الإشكاليات الفقهية التي تثير اللغط والمفاهيم الكلاسيكية الخاطئة مثل: المفهوم الصحيح للجهاد، وفكرة التعايش بين المجتمع المسلم وغيره، ومراعاة الحال والمآل في ضبط التعامل مع الآخر، فضلاً عن تنقية كتب التراث من مثل تلك الفتاوى والأحكام التي يتخذها البعض ذريعة لبعض الأفعال الإرهابية.
1- الجانب الديني للفتوى والإفتاء.
يحيل الجانب الديني للفتوى على عناصر متعدّدة يجمع بينها الانتماء إلى حقلي الدلالتين اللغوية والشرعية. ولئن يصعب في هذا الصدد الإتيان على كلّ تلك العناصر لاعتبارات سياقية ومنهجية، فإنّه يمكن الاكتفاء بتناول أهمّها وما له صلة عضوية بالإشكالية المطروحة شأن المعنى اللغوي والشرعي للفتوى والفرق بين المفتي والقاضي والشروط الموضوعة لممارسة الإفتاء ومصادرها ومنهجها… وإذا كانت هذه العناصر في ظاهرها مجترّة، فإنّها بالنسبة إلى إشكاليتنا المطروحة لا تسهم فقط في كشف حجم الجهود النظرية والنزعة التقعيدية التي صاغت معالم الفتوى في الثقافة العربية، وإنّما كذلك في تمكين المطّلع من رصيد معرفي معتبر يمكنه في ضوئه مقارنة حجم الانحراف الذي لحق وظيفة هذه المؤسّسة في فترات تاريخية متباينة.
يرتبط المعنى اللغوي للفتوى بالإحالة على معان عدّة للمادة المعجمية “فتيا” اعتبارًا أنّ أصل “الواو” في كلمة فتوى “ياء ويعدّ معنى “الإبانة” أهمّها بما أنّه يتضمّن توضيح ما كان مبهمًا بواسطة الإجابة عن سؤال يهمّ العبادات أو المعاملات أي العقيدة والشريعة. وهو ما يعني أنّ للفتوى ما لا يقلّ عن ثلاثة أركان أساسيّة متمثّلة في المفتي والمستفتي والحكم الشرعي
أمّا المعنى الشرعي فيتّصل بالإخبار عن حكم شرعي على وجه الاختيار لا على وجه الإلزام. وهو ما يدفع إلى التساؤل عن معنى المفتي وعلاقة الإفتاء بالقضاء. فالمفتي وفق مجمل التعريفات السائدة يتنزّل منزلة السلطان بنظره في النوازل، والمبيّن والمجيب في المسألة العارضة. بيد أنّ الشاطبي يذهب إلى أبعد من ذلك حين عدّ المفتي بمثابة النبي والنائب عنه في تبليغ الأحكام
ولا شكّ أنّ هذين التعريفين خاصّة التعريف الأوّل يطرح ضمنيًّا التباسًا في علاقة المفتي بالقاضي أو الإفتاء بالقضاء. وقد عالج القرافي (626-684ﻫ) هذا الإشكال من خلال أهمّ الأساليب المعتمدة في كلّ منهما وعلاقتهما بالإمامة فخلص إلى أنّ “القضاء يعنيه الحجاج، والفتيا تعتمد الأدلّة، وأنّ تصرّف الإمامة الزائد على هذين يعتمد المصلحة الراجحة أو الخاصّة في حقّ الأمّة، وهي غير الحجّة والأدلّة ولعلّ أهميّة هذا التفريق في كونه لم يقتصر على الإلماع إلى خصوصيّة كلّ مجال منهما، وإنّما في إشارته البليغة إلى أنّ الفتوى الصحيحة أو الحكم القضائي السليم قد لا يتوافقان مع “المصلحة الراجحة” التي لا بدّ أن تراعيها الإمامة صيانة لحقّ الأمّة. وبهذا المعنى فإنّ “كلّ إمام قاض ومفت، والقاضي والمفتي لا يصدق عليهما وصف الإمامة الكبرى
ولئن أوحى ما خلص إليه القرافي في مقارنته بين المفتي والقاضي والإمام إلى المنزلة الثانوية التي يحوزها المفتي مقارنة بالقاضي أو الإمام، فإنّ المستجدّات التاريخية المعاصرة أثبتت في أحيان عدّة عكس هذا التصوّر خاصّة من ناحية تأثير الفتوى في استقرار المجتمعات وتماسك النظم الحاكمة. ويبدو أنّ ابن رشد الحفيد قد تفطّن إلى خطورة سلاح الفتوى في مستوى توجيه نوعيّة الثقافة السائدة وحركة الفكر، إذ حرص في كتابه “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” على تجاوز السنّة الفقهيّة التي تكرّس الحفظ في تناول الفتاوى ودعا إلى اعتماد العقل في تدبّرها لذلك شبّه الفقيه الحاذق بالخفّاف الذي يصنع لكلّ قدم خفًّا يوافقها.
فمن منظور ابن رشد “مادام النصّ جاريًا على المعاني ومادامت علاقة الفقه بالمعاني هي علاقة جريان وسيلان لا علاقة تعمّق وتشعّب، فالماء إذا لم يكن جاريًا عظمت قوّته ونما ضغطه وتشعّب إلى أماكن عديدة وأحدث أخاديد وشقوقًا، كذلك الفقه إذا تركّز على مسألة فإنّه يحدث فيها وجوهًا عديدة في الفهم والتأويل يبعد به عن الفقه المنشود إذا كانت هذه الصورة المجازية تنبّه إلى خطورة تكلّس الفقه وجمودها، فإنّها تشي بأنّ الفتوى ليست عمليّة هيّنة تقتصر على إصدار الأحكام الشرعية الخمسة من “حلال ومندوب ومحظور ومكروه ومخيّر فيه وهو المباح” وإنّما هو “علم” دقيق وخطير يقتضي الاستزادة المتواصلة من العلوم ومواكبة المستجدّات الجديدة والطارئة إضافة إلى بقيّة ضوابطها وتباين مراتب المفتين في التمكّن منها ومزاولتها.
إنّ انتهاج التقسيم التقليدي لمصادر الفتوى والإفتاء بحسب نوعيّة الحقل المعرفي الذي تنتمي إليه لن يفضي إلى نتائج ذات بال لسببين وجيهين على الأقلّ:
يتعلّق السبب الأوّل بنزعة التعميم التي يصطبغ بها. لذا يستحسن اعتماد أنموذج معيّن للاشتغال عليه في هذه النقطة، بينما يتّصل السبب الثاني بانحصار مصادر الفتاوي الشرعية في علوم الشرع وعلوم العربية.
واستنادًا إلى ذلك فإنّنا خيّرنا اعتماد فتاوى أبي عمران الفاسي أنموذجًا في تدبّر هذه النقطة. ويمكن تبيّن مصادر فتاويه انطلاقًا من محورين بارزين: محور الأعلام ومحور الكتب: يشمل محور الأعلام أهمّ كبار علماء المذهب المالكي من تلاميذ الإمام مالك أمثال عثمان بن عيسى بن كسانة (186ﻫ) وعبد الرحمن بن القاسم (191ﻫ) وعيسى بن دينار (212ﻫ) وعيسى بن مسكين بن منصور (ت295ﻫ) وأبي القاسم ابن شلبون (ت391ﻫ) وأبي القاسم بن محرز (ت450ﻫ)
أمّا محور الكتب فعلاوة على القرآن الكريم والأحاديث النبوية يمكن الإشارة إلى مدونة سحنون و”منخب الأحكام” لأبي عبد الله بن لبابة الملقّب بالبربري (ت 330ﻫ) لئن كانت المصادر مهمّة في تعلّم الفتوى ومزاولتها من حيث إحالتها على عدّتها المعرفية شأن التشبّع بالعلوم اللغوية والشرعية وفهم مقاصد الشريعة للتمكّن من استنباط الأحكام، فإنّها تظلّ مقيّدة بالضوابط الأخلاقية التي هي مهاد ضروري للإفتاء السليم مثل التأهّب والعدالة والأمانة وصفاء الذهن وسلامة السريرة ولا يجب إغفال الشروط الخاصّة المتعلّقة بمراتب المفتين ومنزلتهم، إذ يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من المفتين بالاستناد إلى مدى اجتهادهم
توحي معظم العناصر المشكّلة للجانب الديني للفتوى الشرعية بالطابع الصارم لها، إذ لم يتمّ الاقتصار على تقنينها، وإنّما كذلك تمّ النظر في مراتب المزاولين لها إضافة إلى عدّة عناصر أخرى لا يتّسع المقام لتفصيلها شأن العنصر التوثيقي المتحكّم في نصّ الفتوى وأساليبها وأشكالها. غير أنّ كلّ ذلك لم يمنع من مزاولتها حتّى من الذين لا تتوفّر فيهم الشروط الضرورية لامتهانها. ولعلّ ذلك يعود إلى اقترانها بجملة التحوّلات السوسيوثقافية والحضارية التي اصطبغت بها الثقافة العربية الإسلاميّة منذ انزياحها عن مقاصد الترقّي وانزوائها في دائرة الاجترار والتقليد. وسنحاول في المستوى التالي من التحليل التركيز على ذلك الانزياح انطلاقًا من البحث في الجانب السياسي للفتوى بالاستناد إلى أمثلة تاريخية ما تزال تحتفظ براهنيتها.
2- الجانب السياسي للفتوى
لئن تضمّن الموروث الديني العربي الإسلامي أمثلة متعدّدة تنبّه إلى خصوصيّة مجال الفتوى وتحذّر من خطورتها شأن الحديث المنسوب إلى الرسول الكريم “أجرأكم على الفتوى أجرأكم على النار”، وقول ابن عباس “من أفتى الناس في كلّ ما يسألونه عنه مجنون”، وما شاع عن رفض سحنون لدعوة الأمير محمد بن الأغلب لنصرته على الرغم من شغله منصب القضاء وقدراته البيّنة في الدعوة والإفتاء فإنّ ذلك لم يمنع من الانتشار الواسع للإفتاء. ويعدّ ابن خلدون من الذين تفطّنوا مبكّرًا إلى العلاقة الجامعة بين تطوّر الفقه وظاهرة العمران البشري. لذلك صنّفها ضمن جملة العلوم والفنون والصنائع التي درسها في تحليله لعوامل قيام الحضارات وأفولها وهو ما يعني أنّ الفتوى مثل غيرها من العلوم والأشكال التعبيرية والأنساق الثقافية ترتبط بحركية المجتمع والمستوى الحضاري الذي بلغه. وتأسيسًا على ذلك ليس من المبالغة ربط تداخل السياسي والديني (الإفتاء) بوضعية تاريخية شهدت فيها الثقافة العربية تكلّسًا وجمودًا تتّفق جلّ الدراسات في إرجاعه إلى القرن الخامس للهجرة/العاشر ميلاديًّا.
على الرغم من أنّ هذا الموقف يظلّ محلّ نقاش بما أنّ تقاطع الديني والسياسي حصل قبل ذلك بكثير منذ حادثة السقيفة واختيار أبي بكر وخاصّة بعد مقتل عثمان بن عفان وما يعرف بالفتنة الكبرى. بيد أنّه يمكن اعتبار هذين الرأيين متكاملين على أساس أنّ التداخل بين الفتوى والسياسة لم يتّخذ طابعًا مؤسّساتيًّا ولم يقنّن إلاّ موفّى القرن الخامس للهجرة.
يمكن استكناه الجانب السياسي للإفتاء انطلاقًا من تدبّر نوعيّة العلاقة بين مؤسّسة الإفتاء وبصفة أدقّ دور المفتي وأبرز الفاعلين الاجتماعيين وهم في هذا السياق السياسي أو الزعيم العربي الإسلامي والآخر خاصّة أهل الصليب والاستعمار.
تحفل كتب التاريخ والسير والأعلام والفقه بأشكال مختلفة من تلك العلاقات فقد كان لشيخ الأزهر سلطة ذات بال حدّت في بعض المواقف من هيمنة السياسي إلى درجة أنّه تمّ التصدّي لتحيّل الخديوي إسماعيل في الاستيلاء على الأوقاف من خلال شرائها بثمن زهيد وفي الآستانة أفتى المفتي محمد ضياء الدين أفندي بخلع السلطان عبد الحميد الثاني
. على الرغم من أنّ شبهات عديدة رافقت تلك الفتوى نظرًا لما عُرف به السلطان عبد الحميد من مواقف مبدئية. وفي الواقع لا يمكن قراءة مواقف المفتين بمعزل عن الظروف الحافة بها خاصّة العامل السياسي الذي عظم أثره منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر تزامنًا مع “الصولة الأوروبيّة”.
إذ نجد – على سبيل الذكر – القنصل الفرنسي بتونس ليون روش Léon Roches يصف هذه الحالة قائلًا: “إنّني تمكّنت من استغراء بعض هؤلاء الشيوخ في القيروان والإسكندرية ومكة فكتبوا إلى المسلمين بالجزائر يفتونهم بوجوب الطاعة للفرنسيين وبأن لا ينزعوا إلى الثورة.
وبأنّ فرنسا خير دولة أخرجت للناس، ومنهم من أفتى بأنّ فرنسا دولة إسلامية أكثر من الدولة العثمانية، وكلّ ذلك لم يكلّفني غير بعض الآنية من الذهب”
. ولئن ينزع هذا الحكم إلى التعميم باعتبار أنّ بعض المفتيين عُرفوا بمواقفهم المبدئية في تلك الفترة التي يتحدّث عنها القنصل الفرنسي بتونس شأن الشيخين صالح الشريف وأحمد بيرم]، فإنّ حديثه لم يكن افتراءً بدليل استحواذ الاستعمار الفرنسي بتونس على الأراضي الزراعية استئناسًا ببعض الفتاوى التي تهمّ كيفية الاستفادة من أراضي الأوقاف غير المغروسة.
وهي لئن كانت فتاوى قديمة شأن فتوى محمد الشاذلي ابن صالح التي تعود إلى سنة 1886 وفتاوى الشيخ إبراهيم الرياحي والشيخ محمد الصالح الشاهد، فإنّها ظلّت محتفظة بقوّتها الإجرائية وهو ما أحسن توظيفه الاستعمار. وإذا كانت هذه الأبعاد السياسية للفتوى تنتمي إلى مرحلة تاريخية خاصّة بما لا يمكن معه اعتمادها مقياسًا نقيس به تداخل الديني والساسي في الفتوى، فإنّنا سنسعى في العنصر اللاحق إلى التركيز على أمثلة عربية تشكّلت في سياق الدولة الوطنية لأجل تعميق النظر في إشكاليتنا المطروحة من زوايا متعدّدة.
3- الفتوى بين منطق الدين ومنطق السياسة.
يفرض منطق الدولة الحديثة الانصياع لسلطة القانون دون سواه. وهو قانون منبثق من دستور منظّم للسلطة بمختلف أصنافها وفروعها وللمجتمع على اختلاف تركيبته ولكن لمّا كانت الدولة العربيّة الحديثة في أصلها “دولة تنظيمات” سعت إلى التأقلم مع ضغوط القناصل الأوروبيين لتعصيرها ليس لغاية التحديث في حدّ ذاته بالانتقال من بنية تقليدية إلى بنية حديثة بقدر ما تضمن مصالح التجار الأوروبيين ومصالح دولهم، فإنّ علاقاتها ظلّت متذبذبة سواء مع الحداثة التي ادّعتها وما كسبتها أو مع الدين باعتبار مكانته في بنية الشخصة العربية ومخيالها
. وهو ما يعدّ وجهًا من وجوه أزمة الدولة العربية الحديثة ومؤشّرًا يطرح تساؤلات حول مدة قدرتها على الاستمرار. ويبدو هذا المعطى قاسمًا مشتركًا بين مختلف الأنظمة السياسية العربيّة على الرغم من تباين مرجعيّاتها الأيديولوجية ومواقفها من الإسلام.
ويمكن الاشتغال في هذا السياق على حالتين بارزتين عربيًّا. وهما الحالة التونسيّة سواء غداة الاستقلال وبداية تشكيل الدولة الحديثة في عهد مؤسّس الجمهورية التونسيّة الحبيب بورقيبة أو أثناء ما يعرف بالربيع العربي حين أقدم مؤجّج الانتفاضة التونسية محمد البوعزيزي على إحراق نفسه. أمّا الحالة الثانية فهي الحالة السودانية خلال حكم جعفر النميري حين تمّ تكفير محمود محمد طه وإعدامه.
يكشف مثال الحالة التونسية في مرحلته البورقيبية أنّ الاتّهام الشائع لدى بعض الأوساط المعارضة له في كونه أرسى نظامًا علمانيًّا محاربًا للإسلام يظلّ بحاجة إلى مراجعة جديّة. ذلك أنّ التفحّص لتلك المرحلة التاريخية ينتبه إلى أنّ السلطة البورقيبية اعتمدت الفتوى الشرعية باعتبارها سلاحًا ناجعًا في تهدئة المجتمع وطمأنته حول الخيارات المتّبعة. ويظهر ذلك بوضوح سواء أثناء إصدار فتوى تدعم إعلان النظام الجمهوري وتجيزه سنة 1955، أو في فتوى إباحة القرض الوطني لتعبئة موارد الدولة الفتيّة أو في فتوى وجوب دفع الزكاة لتجهيز الجيش التونسي
. وهي كلّها فتاوى صادرة عن شيخ زيتوني له منزلة سامية ورأسمال رمزي معتبر ومواقف مبدئية معروفة منذ حادثة التجنيس المشهورة سنة 1933 إضافة إلى اضطلاعه بمهمّة الإفتاء سواء في المجلس الشرعي الأعلى في عهد الاستعمار أو في عهد الاستقلال.
لئن انتمت تلك الفتاوى إلى ظرفية تاريخية واحدة متعلّقة ببناء الدولة الوطنية وتحديدًا خلال سنة 1957 وما تلاها من سنوات إلى منتصف الستينيات ما يعكس التعامل البراغماتي للسلطة البورقيبية مع المسألة الدينية، فإنّ تلك السلطة ذاتها ناقضت نفسها سواء في تلك الفترة أو في الفترات اللاحقة لها.
ويبدو هذا واضحًا في غلق جامع الزيتونة بصفته مؤسّسة تعليمية لطالما ضمنت استقرار الدولة والمجتمع من خلال دعمها المتواصل للخيارات الكبرى لتلك الدولة (التصدّي للدعوة الوهابية، دعم تأسيس المدرسة الصادقية، دعم فكرة الدستور…). غير أنّ تلك السلطة نفسها التي بدت حريصة على التخلّص من سلطة الموروث الديني سرعان ما عادت إليه بعد عقد من الزمن فقط لتعتمده عنصر تعبئة واحتواء في وجه بعض التيّارات اليسارية التي سيطرت على الجامعة التونسية وأضحت عنصر تهديد لاستقرار النظام البورقيبي. ولا جدال في أنّ هذه المفارقة تثبت عدم امتلاك السلطة السياسية لاستراتيجيا عمل حقيقية على الأمدين المتوسّط والبعيد. ولا يعني صدور فتاوى تدعم معارك التنمية والتقدّم النجاح في بناء مؤسّسة إفتاء متطوّرة بدليل أنّ السلطة البورقيبية ستصطدم في دعوة بورقيبة للإفطار في رمضان لدعم الإنتاج برفض الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور إباحة ذلك وجوازه
لم يكن ذلك المنطق الذي تحكّم في علاقة السياسي بالديني منطق السلطة السياسية فحسب –إن جاز أن نطلق عليه صفة منطق-، وإنّما خاصيّة مشتركة تنبجس من منظومة فكرية وذهنية ومخيال جماعي مشتركين بدليل أنّه حتّى بعد تراخي قبضة السلطة السياسية أثناء ما يعرف بالربيع العربي ظلّت تلك المنظومة الذهنية واللاشعورية تنتج أنماطها الفكرية وأشكالها الثقافية التي لا تختلف في جوهرها وماهيتها عن الأشكال والأنماط السابقة.
ويمكن توضيح هذا الأمر بالاستناد إلى واقعة إحراق البوعزيزي لنفسه، فلئن اعتبرها المفتي الرسمي التونسي انتحارًا تحرّمه الشريعة الإسلامية وهو حكم له مؤيّدات شرعية عدّة وحكم الشريعة فيه واضح لا لبس فيه، فإنّ الشيخ يوسف القرضاوي أجاز الترحّم عليه والدعوة له بالمغفرة مبرّرًا ذلك بظروف إحراق البوعزيزي لنفسه، وقد وظّف في ذلك قاعدة شرعية وهي “أنّ الحكم بعد الابتلاء بالفعل غير الحكم بعد الابتلاء به، فقبل الابتلاء به ينبغي التشديد حتّى نمنع من وقوع الفعل. أمّا بعد الابتلاء بوقوعه فعلاً، فهنا يلتمس التخفيف ما أمكن ذلك”
إنّ هذا التضارب في المواقف حتّى في ما هو واضح حكمه في الشريعة الإسلامية يعدّ أمرًا دارجًا في الفقه الإسلامي ضمن ما يعرف بالحيل الفقهية التي تعتمد التلاعبات اللغوية والشرعية في تبرير أحكامها وفتاويها.
ويمكن أن نجد في الحالة السودانية في عهد النميري عدّة تفاصيل توضّح هذا الموقف. فقد تمّ الحكم على المفكّر محمود محمد طه (1909-1985) مؤسّس الحزب الجمهوري السوداني بالإعدام في محاكمة لم تستمرّ أكثر من ثلاثة عشر يومًا وقد دعّم هذا الحكم القضائي عديد مؤسّسات الإفتاء والقضاء بالعالم الإسلامي وبالسودان مثل المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر وجماعة علماء السودان وجامعة أم درمان الإسلامية والندوة العالمية للشباب الإسلامي والمحاكم السودانية مرّة أولى سنة 1968 ومرّة ثانية سنة 1985 وهي المرّة التي أُعدم فيها ولئن وشى تعدّد الجهات التي أقرّت بردّة محمود طه بموضوعية الحكم، فإنّ ازدواج موقف الشيخ حسن الترابي يدعم ما ألمعنا إليه في خطاب القرضاوي السابق. فقد أبدى الترابي موافقة ضمنية على إعدام الشيخ السوداني لأنّ “ردّته فاقت كلّ أنواع الردّة التي عرفناها في الملل والنحل السابقة” على حدّ تعبيره بعد إعدام محمود طه مباشرة،
بل إنّ الترابي فسّر معارضة محمود طه لقوانين سبتمبر التي تمّ في ضوئها العمل على التطبيق الحرفي لأحكام الشريعة الإسلامية من بتر الأيدي والأرجل وتحظير الاختلاط بين الجنسين لتهمة الشروع في الزنا على أساس الحسد والغيرة التي انتابت محمود طه الذي رأى في النميري “رجلاً دينيًّا يريد أن يقوم بنبوءة غير نبوءته هو، وأكلته الغيرة فسفر بمعارضته ولقي مصرعه غير مأسوف عليه البتّة” لكن بعد سقوط حكم النميري ناقض الترابي نفسه حين ادّعى أنّه لم يجادل محمود طه في حياته أصلاً. وأنّه “لا يجب أن يتّهم إنسانًا بالكفر مهما فعل”. ولئن بدا هذا الموقف المتناقض للترابي غير منسجم معرفيًّا وأخلاقيًّا، فإنّه موقف مفهوم إذا ما ربطناه بالازدواج الذي يعدّ سمة مميّزة للأدبيات الإخوانية سواء في قضيّة الردّة والتكفير أو في غيرها من القضايا المصيرية خاصّة في مجال السياسة والخيارات الحضارية الكبرى. إذا كان ما يعرف بالربيع العربي قد بعث في بدايته الأمل في تحرير الديني والمعرفي من سلطة السياسي والانصراف إلى القضايا الحقيقية، فإنّ سطحيّة التحديث المنجز وضعف ثقافة المواطنة بالعالم العربي قد أجهضا ذلك الأمل وفضحا تهافت مرتكزاته وهشاشتها، إذ تزايد عدد المفتين وتفاقمت الفتاوى إلى درجة أضحى فيها “الفقيه الفضائي”
ظاهرة لا تهدّد فقط استقرار المجتمع وإنّما استقرار الدول واستمرارها. ويمكن في هذا الصدد العودة إلى فتوى الجهاد بسوريا للتأكّد من خطورة الأزمة التي تهدّد الوجود التاريخي للعرب وكياناتهم السياسية. ولا شكّ أنّ تلك المؤشّرات لا تساعد على تطوير مفهوم الدولة الحديثة وعقلنة المجتمع، ولا تساعد الدين أيضًا في تحقيق مقاصده الروحية والإنسانية الكبرى باعتبار أنّ “وجود الدين أصلاً ودلالة لا يتحقّق إلاّ في إطار سياسي محدّد”
خاتمة:
شكّل التجاذب والتنافر القائمان على التحيّز والاستحواذ في علاقة الفتوى الشرعية بالسياسة في العالم العربي عائقًا أمام تطوّرها، فتحوّلت من عنصر يمكن أن يسهم في ترقية الخطاب الديني إلى عنصر من عناصر وهنه وضعفه. وفي الحقيقة لا يقتصر هذا التوتّر على علاقة الديني بالسياسي، وإنّما يشمل الثقافة بوجه عام. ولا شكّ أنّ تجسير تلك الفجوة يتطلّب مراجعة تامّة تفضي إلى تقديم المعرفي على أي شيء آخر.