لم تجد حكومة فرنسا ما تعوض به فشلها فى إفريقيا، إلا بشن حرب على “العباءة ” التى ترتديها الفتيات فى المدارس، بحجة أنها رمز دينى يجب حظره حماية لهوية الدولة العلمانية، وبهذه الحرب المصطنعة تنشغل الأحزاب، وينشغل المجتمع الفرنسى عامة لعدة أسابيع، عما يحدث لعسكرييهم ودبلوماسييهم فى إفريقيا، الذين يطردون من دولها تباعا شر طردة، ويتهمون بسرقة الموارد الوطنية، بعد أن كانت أبواق الدعاية الفرنسية تروج أنهم هناك لمواجهة الإرهاب.
ومثلما كان الرئيس ماكرون حادا وعنيفا فى حظر الحجاب والنقاب كان أشد حدة فى حظر عباءة الطالبات والقميص الطويل الذى يرتديه الطلاب فى المدارس الحكومية، مشددا على الالتزام بمنعهما بكل حزم، تطبيقا للقرار الذى أصدره وزير التعليم جابريال آتال فى هذا الشأن قبيل بدء العام الدراسى الأسبوع الماضى، كأنهم اكتشفوا أن العباءة والقميص الطويل يشكلان خطرا داهما يهدد العلمانية التى تقوم عليها الدولة الفرنسية.
وقد صدق مجلس الدولة (أعلى سلطة قضائية فى فرنسا) على قرار الوزير الخميس الماضى، ما يعنى أنه أصبح واجب التنفيذ بالقوة الجبرية، ورفض التظلم الذى رفعه إليه المجلس الإسلامى وجمعية الدفاع عن حقوق المسلمين، وتضامن معهما حزب “فرنسا الأبية” اليسارى.
وقال وزير التعليم إن نحو 300 تلميذة (فى سن 15 عاما) ذهبن إلى مدارسهن مرتديات العباءة المحظورة فى اليوم الأول للدراسة، لكن موظفى المدارس أجروا جلسة حوارية مع كل فتاة، ووافقت معظم الفتيات على تبديل ملابسهن بملابس أخرى توافق المعايير، وبقيت 67 فتاة رفضن الامتثال للأوامر، مما استدعى إعادتهن إلى منازلهن، وسيتم عقد جلسات حوارية مع عائلاتهن، وإذا فشلت تلك الجلسات فسيتم استبعادهن من الدراسة.
وكانت الأحزاب اليمينية فى فرنسا قد مارست ضغوطا من أجل حظر العباءة والقميص (الإسلاميين) فى المدارس، بدعوى أنهما ينتهكان القيم والقوانين العلمانية الصارمة المطبقة فى مجال التعليم، بينما رأت الأحزاب اليسارية فى هذا الحظر تعديا على الحريات المدنية، وإشعالا للاستقطاب السياسى فى المدارس مع بداية العام الدراسي الجديد.
ونشرت الأحزاب اليمينية تقارير ضد ما أسمته “تزايد ظاهرة العباءة الإسلامية التى تفرض نمطا من الزى الدخيل على فرنسا والفرنسيين”، كما نشرت اللجنة الوطنية للعمل العلماني تقريرا أشارت فيه إلى “تضاعف حالات ارتداء العباءة، وخصوصاً خلال شهر رمضان”، فى حين أعلن الحزب الاشتراكى أن الضجيج حول ثوب ترتديه فتيات المدارس لا معنى له، فأعداد اللاتى ترتدين ” الكورب توب” (تي شيرت يكشف عن البطن) التي منعت العام الماضي، تزيد على أعداد مرتديات العباءات، ولم يتعرض لهن أحد، وذكر بيان لحزب “فرنسا الأبية” اليسارى أن قرار حظر العباءة معاد للإسلام، وأن الحكومة تشن حربا دينية جديدة سخيفة ومصطنعة بالكامل حول لباس المرأة، وتساءل البيان:متى سيكون هناك سلم أهلي حقيقي، ومتى ستكون عندنا علمانية حقيقية لا تحارب الدين؟.
وقد قوبل قرار حظر العباءة باستنكار شديد من المجلس الإسلامى فى فرنسا، الذى أكد أن العباءة ليست لباسا دينيا، وليس هناك نص ديني بفرضها، لكنها نوع من الزي الشعبي (التقليدى)الذى ارتبط بجوانب ثقافية، مثل الفساتين الطويلة وما يشبهها، وأن حظرها يشكل تمييزا وتضييقا وقهراعلى الفتيات الصغيرات فى المراحل الدراسية المبكرة، يتعارض مع شعارات الحرية التى ترفعها فرنسا، كما استنكر الطلاب وأهاليهم أن يكون للعباءة أي بعد ديني أكثر من أنه يستر جسم المرأة، مثل اللباس الذى ترتديه السيدة مريم العذراء، وهو تبرير لم يقنع السلطات الفرنسية.
وطرحت سونيا بكيس وزيرة الدولة لشؤون المواطنة تساؤلا مثيرا للسخرية:”هل غير المسلمين يرتدون العباءة ؟ كلا، إذن هي لباس إسلامي، ما يعني أنه مناف للعلمانية، والفتيات اللاتي يرتدينها يفعلن ذلك بقصد التحدى”، وقد علقت المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان على القرار الفرنسي بأن ” المعاييرالدولية لحقوق الإنسان تنص على ضرورة عدم فرض قيود على المظاهر المرتبطة بالدين أو المعتقد، بما فيها اختيار الملابس، إلا تحت ظروف محدودة للغاية”.
والعباءة المقصودة هي تلك التى ترتديها الفتيات عادة فوق ملابسهن، وهى منتشرة باللون الأسود فى دول الخليج، ومنتشرة فى مناطق أخرى بألوان مختلفة، ويتساءل المسلمون فى فرنسا : هل من حق أتباع كل الديانات والملل ارتداء مايشاءون من ملابس، ولا يتم التضييق والتمييز إلا على المسلمات الفرنسيات، بادعاء أن ملابسهن ضد العلمانية؟ ألا يزعمون أن العلمانية تتخذ موقفا محايدا من كل الأديان، لا هي معها ولا ضدها، فلماذا هذه الحرب على العباءة، التى يمكن أن تكون “موضة” وليست رمزا دينيا، خصوصا أنها لباس عصري متوافر في أرقى المتاجر، مثل “زارا” و “إتش آند إم”.
وتضم فرنسا أكبر أقلية مسلمة فى أوروبا ( حوالى 5 ملايين نسمة)، وكانت قد حظرت ارتداء الحجاب فى المدارس الحكومية عام 2004، باعتباره رمزا دينيا، كما فرضت حظرا على النقاب والبوركينى، دون أن تتعرض لأية رموز أخرى مثل السارى الهندوسى وعمامة السيخ وقبعات اليهود، أو حتى الملابس الممزقة، وملابس الشواذ وألوانهم، وقد تم ذلك تحت شعار العلمانية، بينما يتصدر الصليب المذهب أرفع الأوسمة التى تمنحها الدولة الفرنسية للشخصيات السياسية والعلمية والأدبية فى العالم تعبيرا عن هويتها، وهناك مسلمون حصلوا على هذه الأوسمة، وعلقوها على صدورهم دون أدنى حرج.
لقد دخلت فرنسا في خصومة مكشوفة مع الإسلام والمسلمين منذ نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم في مجلة “شارلي إبدو”، وهى الآن تذهب بعيداً نحو التطرف فى الخصومة، سواء فى حرب الحجاب والعباءة والقميص، أو في مسائل الهجرة والأمن، ليس فقط ضد المسلمين المهاجرين، وإنما أيضا ضد المسلمين الفرنسيين، ذوى البشرة البيضاء والشعر الأشقر.