فى كل عام حين يهل شهر ربيع الأول يثار الجدل حول مشروعية الاحتفال بالمولد النبوى الشريف بين ممانعين ومجيزين، وربما يكون السبب فى ذلك أن الاحتفال فى الغالب الأعم يتعلق بالمظهر دون الجوهر، يقف عند الشكليات ولا يتطرق إلى المضمون، مع أن المضمون هو الأصل، وهو جوهر الاحتفال والمرجو منه، وهو المطلوب لديننا ودنيانا، وهو الذى يرضى ربنا ونبينا، ولا بأس إذا صاحب المضمون شيء من الشكل الاحتفالى، أما أن نستبدل الشكل بالمضمون، فتلك هى أزمتنا الحقيقية.
ومنذ عشرات السنين يتكرر الجدل العقيم بين المؤيدين للاحتفال والمعارضين، بينما يصرخ فريق آخر بأن العبرة بمضمون الاحتفال لا بشكلياته، العبرة باستحضار صاحب الذكرى، عليه الصلاة والسلام، واستحضار رسالته الغراء، حتى نغير ما بأنفسنا، فيغير الله سبحانه وتعالى ما بنا، ونخرج من ظلمات التخبط إلى نور الهداية والرشاد، لكن الذكرى تمضى وقد طغت الشكليات على المعنى والهدف، فلا الذين احتفلوا غيروا وتغيروا، ولا الذين لم يحتفلوا غيروا وتغيروا.
وهذا الجدل حول المولد النبوي ليس من العقيدة، ولم يكن فى الأولين السابقين، لأنهم كانوا يعيشون والنبي بينهم، بسنته وسيرته العطرة، التى ينزلونها على واقعهم، أما نحن فقد درجنا على أن نتجادل فى الاحتفال كما نتجادل فى قضايا لا تغنى ولا تفيد، بينما نتجاهل الجدل فى القضايا الأهم لواقع الأمة التى تخلفت عن ركب الحضارة، وتوشك أن تخرج من التاريخ، وصارت عثاء كغثاء السيل، يتكالب عليها الأعداء وهى غافلة غائبة عن وعيها، سادرة فى تفككها وضعفها وجهلها ولهوها، كأنما تساق إلى الموت وهى لا تدرى من أمرها شيئا.
كان المولد النبوي بالنسبة للأولين إحياء دين، ومشرق حضارة، وبناء دولة، ومطلع حرية، وبشرى اتحاد كلمة، واجتماع شمل، وتكوين أمة خالصة لله، قوامها الانعتاق من الجهل والخرافة والاستبداد والاستعباد، فأين نحن اليوم من ذلك؟
يخاطب أمير الشعراء أحمد شوقى رسولنا الكريم فى هذا المعنى بحسرة المتحسر:
شعوبك فى شرق البلاد وغربها
كأصحاب كهف فى عميق سبات
بأيمــانهم نوران؛ ذكـــر وســنة
فما بالهم فى حالك الظلمــــــات ؟
إن حبنا لرسولنا الكريم، واحتفالنا بمولده الشريف، يجب أن يذكرنا بأننا أمة واحدة، أمة قامت على التوحيد والإخاء والمساواة، ونادت بالعلم النافع، استجابة لرسالة السماء التى اختارتها لتكون خير أمة أخرجت للناس، وكان أول ما نزل من الوحي على رسولها :”إقرأ باسم ربك الذى خلق”، لبث روح الحياة فيها، إيذانا لها بنقلة نوعية، تأخذها من أميتها وجاهليتها وتشرذمها إلى العلم والحضارة والمدنية والخلق الحسن والقيم العالية، فانتقلت بفضل الرسالة والرسول إلى صدارة الحضارة الإنسانية، وأرست أعظم المبادئ التى حررت الإنسان من العبودية لغير الله، ونشرت قيم العدل والتسامح الدينى والخلقي بين البشر جميعا، وأثرت تاريخ الإنسانية بما قدمت من علوم وآداب وفلسفة وفنون.
ولا شك أن واقعنا المؤلم اليوم يعكس بكل وضوح مدى ارتباط الأُمــة برسالتها ورسولها، لأن قرب الأمة أو ابتعادها عن منهج الرسالة الإلهية التي بعث بها رسولها – صلى الله عليه وسلم ـ يظهر جليا في مدى رقيها ومساهمتها الإيجابية، ليس فقط في واقعها، وإنما في واقع البشرية عموما، وهنا تأتي أهمية استحضار الرسالة واتباعها، واستحضار سنة الرسول وسيرته واتباعها، لكى تخرج الأمة من النفق المظلم الذى تتخبط فيه.
وليس يخفى على أحد أن القوى المعادية قد عمدت إلى إبعاد الأُمــة فى مراحل انحطاطها الحضارى عن الرسالة والرسول، حتى يسهل القضاء عليها، واجتثاثها من جذورها، أو تركها معلقة فى الهواء تذروها الرياح، وبدأت فى تحقيق أهدافها الخبيثة باستهداف الرسول، مستعينة بمن غرستهم عملاء لها في بلاد المسلمين، فعمل هؤلاء باسم الدين على تشويه الدين، والتشكيك فى أحاديث الرسول، والدعوة علنا إلى إهمال سنته وسيرته، وخلق فجوة بين الأمــة ورسولها.
وعبر عقود طويلة من دعوات التنوير والتغريب والعلمنة باتت أمة الإسلام مخترقة في دينها ومعتقدها من عملاء يدعون انتسابهم إليها، وأصبحت مهيأة لتقبل ثقافات منحرفة تدعو للانحلال الأخلاقي والقيمي والشذوذ، وتنفر من روابط الأسرة واحترام المقدسات، وكانت النتيجة التي نراها في الواقع من انحلال وانحطاط في القيم، إلى الحد الذي وصل فيه بعض المسلمين إلى الانفصال ـ كليا أو جزئيا ـ عن رسالتهم ورسولهم، وظهر من يطعن فى القرآن الكريم، ويستهين بآياته.
وبدلا من أن نغرق كل عام فى الجدل العقيم حول مشروعية الاحتفال بالمولد النبوى سيكون رائعا ومجديا أن نتجادل حول تحويل الاحتفال إلى مناسبة لاستحضار الرسالة والرسول، لنصلح بهما معا ما فسد من أمر ديننا ودنيانا، فالرسالة ليست منفصلة عن الرسول، والرسول لا ينفصل عن الرسالة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:” تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدا، كتاب الله وسنتى”، وهاهو كتاب الله عز وجل ينطق بيننا:”واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا”، وهاهى سنة نبينا تدعونا إلى شحذ الهمم ورفع المعنويات:”استعن بالله ولا تعجز”.
نحن أمة تمرض ولكن لا تموت، والسبيل الوحيد أمامنا اليوم كى نعود إلى قوتنا وسالف مجدنا وعزتنا ونهضة حضارتنا، أن نحتفل بمولد نبينا بالدعوة إلى ميلاد جديد لأمة الإسلام، ميلاد يبدل حالها، ويرد إليها روحها، فيوقظها من رقدة العدم، ويجمع شملها، ويوحد كلمتها، ويضعها على الصراط المستقيم، كى تتبوأ المكانة اللائقة بها بين الأمم، وهي تدرك جيدا مغزى الآية الكريمة:”إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.إن أملنا فى الله كبير، ولا شك أن شمسنا ستشرق من جديد، “ويقولون متى هو، قل عسى أن يكون قريبا” صدق الله العظيم