رغم حدة العلمانية الملحدة، العلمانية الخشنة، التى حاربت الإسلام بشكل مباشر، ومنعت أي مظهر من مظاهره، إلا أنها أقل خطرا على الإسلام والمسلمين من العلمانية الناعمة، العلمانية الليبرالية، التى تحارب الإسلام من داخله، وتتفنن فى تفريغه من مضمونه، بأيدى مسلمين، يؤدون أدوارا محددة، ويرفعون شعارات براقة، يخدعون بها الناس، وينشرون بها الفتن، ويوما بعد يوم تتسع دوائرهم، ومن هنا يحدث الانشقاق الدينى، وتتآكل الثوابت رويدا رويدا، وبشيء يسير من التساهل تنفصم عرى الإسلام، عروة بعد عروة، حتى لايبقى منه إلا اسمه.
تاريخيا لدينا نموذجان للعلمانية الملحدة، متزامنان تقريبا، الأول فى الاتحاد السوفيتى السابق، والثانى فى تركيا الأتاتوركية ( أو الكمالية)، فعندما استولى الشيوعيون على حكم روسيا، فيما يعرف بالثورة البلشفية عام 1917، ضموا إليهم 6 دول إسلامية فى آسيا، هى أذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان وكازاخستان وقيرغيزستان، وعملوا على قطع العلاقة بين شعوب هذه الدول وبين دينهم وقرآنهم وتراثهم، ومنعوهم من أداء شعائرهم لعدة عقود، على أمل أن ينسوا إسلامهم تماما، لكن الناس لم ينسوا، وعندما سقط هذا النظام الاستبدادى الحديدى، وتقكك الاتحاد السوفيتى عام 1991، استردت الشعوب المسلمة هويتها، وعادت إلى دينها أفواجا، يحدوها شوق جارف إلى جذورها الضاربة فى أعماق النفوس وأعماق التاريخ، واتضح أن كل محاولات الشيوعيين لانتزاع الإسلام من صدور أبنائه قد باءت بالفشل.
وفى تركيا كان صعود كمال أتاتورك وإلغاء الخلافة العثمانية عام 1924، إيذانا ببدء مرحلة جديدة فى تاريخ الأمة التركية، تنتزعها من دينها انتزاعا، وتفرض عليها العلمانية الخشنة الملحدة، وتمنع أي مظهر يربط الشعب التركى المسلم بدينه وهويته وتراثه، حتى وصل الأمر حد الهزل، فتم حظر العمامة وفرض القبعة الأوروبية، أملا فى أن يكون هذا هو الطريق الذى يأخذ تركيا إلى ركب الحضارة، ويجعل منها دولة أوروبية حديثة، كما تم منع الحجاب والعباءة، وجعل الأذان باللغة التركية، وحرمان الناس من قراءة القرآن إلا فى المساجد، وإغلاق المدارس الإسلامية والكتاتيب والزوايا والتكايا، وإلغاء أجازة الجمعة واحتفال عيد الفطر وعيد الأضحى، لكن ما إن زالت الغمة، وأتيحت الفرصة أمام الشعب التركى ليمارس حريته، حتى ظهر الإسلام فيهم قويا سليما معافى، لم يتأثر بالكبت والمنع، وكأن سنوات أتاتورك ومن سار على دربه لم تكن شيئا مذكورا.
أما العلمانية الناعمة التى نواجهها اليوم فهى الأشد خطرا، لأنها تستهدف إحداث التغيير فى بنية الإسلام نفسه، ومن داخله، رافعة شعارات التيسير والتنوير والتجديد، وهى شعارات جذابة، استخدمها علماء الإسلام كثيرا من قبل دون حساسيات، ومن ثم فمن السهل أن تخدع الناس، وتسلب منهم وعيهم، وتثبط قوى المناعة والمقاومة التى انتصر بها المسلمون فى حروبهم الصريحة، وبها صمدوا فى مواجهة الشيوعيين والأتاتوركيين.
اليوم يقول جنود العلمانية الناعمة إنهم لا يحاربون الإسلام، ويدعون أن علمانيتهم تتخذ موقفا محايدا من الأديان، وأن العلمانية الجزئية لا بأس بها ولن تضر، بل ستصلح الأحوال، لكن فى التفاصيل نكتشف أنهم يحاولون تنفير الناس من الإسلام، بحجة أنه صار قديما، ولم يعد صالحا لهذا الزمان، وأن المسلمين بحاجة إلى إسلام سلمى (كيوت)، إسلام إبراهيمي لايقاوم ولا يجاهد، يجرى تصنيعه على أيدى مستشرقين ومراكز أبحاث وأجهزة استخبارات غربية، ويقدم لهم من خلال مناهج دراسية معدة بعناية ماكرة، وقنوات فضائية تتحدث بألسنة عربية مستأجرة، يتم تدريبها جيدا، وينفق عليها بسخاء.
يركز خطاب العلمانية الناعمة على أن الإسلام جاء لأهل زمانه من عرب الجزيرة (البدو الصحراويين) دون سائر الأمم، ولا يصلح لكل الشعوب، ولا لكل زمان ومكان، وقد حان الوقت لتطويره حتى يناسب العصر، وتكون البداية بنزع المهابة والتوقير اللذين يتعامل بهما المسلمون مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه، وإلغاء معظم هذه الأحاديث، فما حاجتنا إلى الحديث وعندنا القرآن ؟ ثم الالتفات إلى القرآن والتشكيك فى جمع المصحف الشريف، وفى التفاسير والمفسرين، ومحاولة تأويل الآيات كى تعطى معاني ودلالات مغايرة لما هو معروف ومتوارث، ولا مانع أن تأتى هذه التفسيرات الجديدة من مثقفين ومثقفات، وإعلاميين وإعلاميات، وفنانين وفنانات، صاروا يفتون فى كل شيء، حتى فى الدين، ولم لا ؟ أليس الإسلام هو صاحب دعوى إلغاء الكهنوت الدينى ؟!!
وبعد هذه الجرأة على القرآن والسنة تأتى الجرأة على الصحابة الكرام، الذين حفظوا لنا الدين ونقلوه إلينا، ونشروه فى الشرق والغرب، فيتم اتهامهم بأنهم (القتلة الأوائل)، وأنهم إرهابيون شهوانيون، سعوا إلى غزو بلاد الشمال من أجل المال والنساء البيض، والتشكيك فى المقدسات الإسلامية (المسجد الأقصى ليس هو الكائن فى فلسطين !!) والتطاول على علماء الإسلام العظام واحتقار أبطاله التاريخيين، وتشويه مفهوم (الجهاد) ليصير صنوا للإرهاب، والسخرية من الرموز والشعائر الإسلامية كالأذان والصوم وذبح الأضاحى والحجاب، إلى أن بلغ الأمر حد الهجوم العلنى على المؤسسة الدينية الأعلى وشيخها الجليل.
وتصر العلمانية الناعمة، بشكل مباشر وغير مباشر، على ربط الإسلام بالتخلف الحضارى، واتهام الثقافة الوطنية الإسلامية بالجمود والرجعية، وابتداع تناقض بين الإسلام والحياة العصرية، فى محاولة لإحداث قطيعة تامة بين الشعب وتراثه، وفى المقابل يجرى الاحتفاء بأي خروج على الثوابت الدينية والتقاليد والأعراف والأنساق الأخلاقية التى يعيشها المجتمع المسلم، وكلما كان الخروج فظا غليظا كان صوت الاحتفاء به عاليا.
لقد كانت العلمانية الملحدة تستهدف عزل المسلمين عن دينهم، دون أن تقترب من الإسلام نفسه، أما العلمانية الناعمة فتستهدف تعديل الإسلام، أو تبديله على مراحل، حتى يلائم زمن الجندر ومجتمع الميم، ويتصالح مع الصهيونية العالمية وأطماع العولمة، ولهذا فإن العلمانية الناعمة أخطر بكثير من العلمانية الملحدة.