زمان، اتُهمت سيدة فقيرة وليست بعربية بالسرقة من قبل عائلة من أحياء العرب كانت تعمل لديهم، اتهموها بسرقة وشاح أحمر صغير لابنتهم العروس، مع أن الذى التقطه الحدأة بسبب لونه الأحمر، حيث تلتقط الحدأة كل ما هو أحمر اللون، معتقدة أنه بالضرورة من اللحوم. المهم أن هؤلاء الناس لم تأخذهم رحمة بالجارية وعذبوها عذابًا شديدًا بل وقاموا بتجريدها من جميع ملابسها ليفتشوها بطريقة مهينة انتهكت كل قواعد المرءوة والشهامة التى كانت معروفة فى ذلك الوقت فى تعامل القبائل حتى مع الخصوم والأعداء. توجهت الجارية بالدعاء لله عز وجل أن يرفع الظلم عنها، رغم أنها لم تكن قد أسلمت بعد لكنها سمعت عن محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته، ثم قدر الله تعالى فى وقت تفتيشها أن الحدأة عادت تحلق من جديد فى نفس المنطقة وألقت الوشاح بينهم فعرفوا براءتها حينئذٍ، فاعتقوها.
كان أول ما قامت به تلك المرأة أنها توجهت للمدينة المنورة وأسلمت، وجعلت سكنها فى المسجد وهو بيت صغير تأوى إليه، وكانت دائمًا ما تذكر هذه الحادثة لأم المؤمنين عائشة رضى الله عنها وتنشد هذا البيت مصداقًا للحادثة:
ويوم الْوِشَاحِ من أعاجيب ربنا
ألا إنه من بلدة الكفر أنجانى.
لم تكن دعوة المظلوم فقط سببًا فى براءة أم محجن على رءوس الأشهاد ولكن نقلتها للإقامة فى المسجد النبوى الشريف. وعلى الرغم من كبر سنها، إلا أنها كانت شديدة الفهم لقيمة مسجد الرسول وكانت تقوم بتنظيف المسجد النبوى يوميًا بعد صلاة العشاء وخروج المصلين منه وتقوم بتجهيزه لاستقبالهم نظيفًا مع بزوغ فجر اليوم الجديد وهى لا تبتغى شيئًا من هذا العمل إلا وجه الله تعالى.
سيدة بلا عائلة ولا مال أو جاه ولكن أراد الله لها أن تعيش فى عهد رسول الله، صل الله عليه وسلم، والذى كان يولى الفقراء والمساكين والمستضعفين وخاصة كبار السن من أمثال أم محجن كل اهتمامه ورعايته وكرمه، فظلت أم محجن تقيم بالمسجد، عقب خروج المصلين من صلاة العشاء، إلى جانب مكوثها إلى جوار السيدة عائشة، والذهاب إليها يوميًا، وذات صباح افتقد النبى الكريم، صل الله عليه وسلم، لتلك المرأة فسأل عنها، فأجابه بعض الصحابة أنها قد ماتت، فأشفقوا عليه من إخباره بخبر موتها، فقاموا إليها وغسلوها وكفنوها، ثم دفنت فى الليل.
تأمل رد فعل الرحمة المهداة والنعمة المسداة سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم.غضب الرسول غضبًا شديدًا من تصرف الصحابة على ما فيه من حسن نية، ولعل لسان حاله كان يسألهم ترى لو كانت المتوفاة من علية القوم هل كانوا سيدعونه نائمًا أم سيوقظونه ليصلى عليها ويدفنها؟! لكنه رفع عنهم الحرج ولم يسألهم وتصرف بما يليق بنبى الرحمة وطلب منهم أن يصطحبوه لقبر أم محجن وذهب ليصلى عليها ويدعو لها. ورغم أن الشمس كانت شديدة الحرارة، وكان من الممكن أن يكتفى بالدعاء لها من مكانه، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم مستجاب من أى مكان لكنه أراد أن يعطيهم ويعطينا درسًا عمليًا فى كيف تكون كريمًا مع كل الناس مهما كانت أنسابهم أو أصولهم. فكل الناس سواسية ولا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى. وأن الأخلاق لا تتجزأ، وقد كان صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن.
بأبى أنت وأمى يا رسول الأخلاق الحسنة التى امتدحها رب العزة فى كتابه الكريم فقال لك: وإنك لعلى خُلْقٍ عظيم.