ولا شك أن قضية فلسطين لها مكانة خاصة في قلوب المسلمين عبر التاريخ، فهذا الشعب العريق يقف دائما ضد الظلم، فقد كنت أسأل نفسي كثيرا طوال سنوات تدريسي لمساقات ذات طبيعة سياسية وإعلامية في الجامعة عن اهتمام هؤلاء الطلبة بقضية الأمة الأولى (القدس الشريف) ومناقشة ذلك بإسهاب، رغم صغر سنهم، وكذلك تراجع المد القومي العربي بعد العدوان العراقي على دولة الكويت الشقيقة، وتوقيع اتفاقيات أوسلو.
ولكن ذلك لم يمنع أبناء هذا الوطن العزيز من مساندة الشعب الفلسطيني المنكوب، ولعلنا نتذكر جميعا انتفاض المجتمع وخروجهم في مظاهرات للمطالبة بإغلاق المكتب التجاري الإسرائيلي في مسقط في أعقاب استشهاد الطفل (محمد الدرة) على يد الصهاينة.
فهذه الجريمة البشعة المتمثلة في استهداف هذا الطفل برصاص الغدر وهو يختبئ خلف والده الأعزل أمام كاميرات البث التلفزيوني المباشر قد هزت العالم من أقصاه إلى أقصاه، وفجرت موجة غضب واسعة النطاق في المدن العربية التي خرجت لمناصرة القضية الفلسطينية العادلة، وكشفت القناع عن حقيقة جيش الاحتلال ومجازره المتعددة في فلسطين.
يجاهد الشعب الفلسطيني بمختلف فئاته الاحتلال الصهيوني البغيض الذي تقف خلفه الدول الكبرى التي اختارت لهذا الكيان الغاصب قلب الوطن العربي (فلسطين)، هذه الأرض المقدسة التي تضم إحدى المقدسات الإسلامية لأكثر من ملياري مسلم في مختلف أنحاء العالم إنه “أولى القبلتين وثالث الحرمين”. وهي مسرى الرسول عليه الصلاة والسلام ومعراجه،
والتي سالت حولها دماء الشهداء الأبطال من الفلسطينيين. وتشهد أرض الزيتون المقدسة ملحمة جديدة من الرباط والجهاد والبطولات في معركة الدفاع عن المسجد الأقصى الذي دنسته أقدام الصهاينة في العشر الأواخر من رمضان الماضي.
لقد ردت غزة المحاصرة منذ عقود من العرب والصهاينة على جيش الاحتلال المتغطرس بأسلحة لم تكن في الحسبان، فصواريخ القسام وسرايا القدس التي صنعتها المقاومة محليا، دكت قلاع المحتلين في القدس الغربية وتل أبيب متجاوزة بذلك القبة الحديدية التي كلفت مئات الملايين من الدولارات.
لقد غيرت كتائب عز الدين القسام موازين القوى وكسرت تفوق الجيش الذي لا يقهر؛ إذ أظهرت المشاهد التلفزيونية المنقولة من الثكنات حالة الهلع والخوف التي تسيطر على هذا الجيش الذي تم تجميعه من أنحاء العالم، جراء رشقات الصواريخ التي تتساقط بلا انقطاع على مدن فلسطين المحتلة من النهر إلى البحر. ترتكب الحكومة الإسرائيلية خطأ مماثلا الآن من خلال معاملة جميع المتظاهرين باعتبارهم عملاء لحماس ثم استخدام القوة القاتلة ضدهم في غياب تهديد وشيك للحياة. قد تشكل سيطرة حماس على غزة تهديدا أمنيا لإسرائيل، لكنها لا تبرر أعمال إسرائيل غير القانونية ضد سكان غزة المدنيين.
يزعم المسؤولون الإسرائيليون والأمريكيون أنه ليس أمام إسرائيل من خيار سوى الرد على التهديد الذي تراه من حماس عن طريق مهاجمة سكان غزة، مما يتسبب في المعاناة، وحتى الإصابات والموت. كانت تلك طريقة العمل الإسرائيلية الفاشلة، المدعومة من الولايات المتحدة، منذ أن سيطرت حماس بالقوة على غزة في عام 2007 بعد فوزها بأغلبية الأصوات من الفلسطينيين في القدس الشرقية وغزة والضفة الغربية في عام 2006 وتقاسم السلطة لفترة وجيزة مع منافستها “فتح”.
قامت إسرائيل، التي تسيطر على معظم معابر غزة ومياهها الإقليمية ومجالها الجوي، والقطاع الحدودي داخل غزة، بإغلاق المعابر، ولم تسمح بمرور الناس إلا في “ظروف إنسانية استثنائية”، وحظرت خروج السلع، وحدّت من الإمدادات الواردة. وأغلقت مصر حدودها مع غزة مع استثناءات قليلة.
تعترف الحكومة الإسرائيلية بهذا المعيار الدولي لإنفاذ القانون، لكنها تقول إن قواتها ستطلق الذخيرة الحية حتى قبل أن يصبح تهديد الحياة وشيكا، لأنها تعتقد أن حماس ستستغل وجود آلاف المتظاهرين لخرق السياج الحدودي. هذا في الأساس يفرغ كلمة “وشيك” من أي معنى.
وهو يتجاهل الوسائل غير القاتلة، مثل الغاز المسيل للدموع، المياه النتنة، والرصاص المطاطي، وهي وسائل يمكن ويجب على إسرائيل استنفادها لحماية حدودها. حتى لو لم تنجح تلك الأساليب (ولم تكن قد استُنفدت)، فإنه لن يكون لإسرائيل مبرر في استخدام القوة القاتلة إلا إذا كان اختراق الحدود يمثل تهديدا وشيكا للحياة.
يطلق الجنود والقناصة الإسرائيليون النار الآن من مواقع محصنة داخل إسرائيل، خلف سياجين، وفي بعض المواقع الرئيسية، من خلف خنادق تم حفرها لمنع عبور الحدود. وهم يتلقون صورا من طائرات بدون طيار تحوم فوق غزة، ويتلقون دعم أفراد ومعدات إضافية في قلب إسرائيل. تحدثت إسرائيل عن إصابة واحدة فقط بين قواتها منذ بدء الاحتجاجات.
قبل 104 سنوات، كتب آرثر بلفور، وزير خارجية بريطانيا، رسالة إلى البارون روتشيلد، أحد زعماء اليهود في بريطانيا، أبلغه فيها عام 1917 بأن حكومة بلاده تؤيد إقامة وطن لليهود في فلسطين.
بعدها بـ 56 سنة، وقف جون بايدن، الرئيس الأمريكي الحالي، في مجلس الشيوخ، بعد عودته من زيارة إلى إسرائيل في منتصف عام 1973، قائلا إنه “لو لم توجد إسرائيل، لتعيَّن على الولايات المتحدة الأمريكية إيجادها “.وعلى المستوى السياسي والدبلوماسي، اضطلعت موسكو بدور حيوي في دعم موقف اليهود بالأمم المتحدة عند مناقشة قضية الشرق الأوسط بعد إعلان قيام إسرائيل.
استمر التوتر بين إسرائيل والاتحاد السوفيتي لفترة ليست قصيرة بعد الحرب، حتى تولى أنور السادات رئاسة مصر خلفا لعبد الناصر عام 1970، فتغيرت سياسة مصر تغيرا جذريا بقطيعة مع الاتحاد السوفيتي وتحالف مع الولايات المتحدة، وهو ما أسفر عن بدء مسيرة التسوية مع إسرائيل. ويتزايد تفتيت الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، بواسطة توليفة من السياسات والممارسات تشمل على سبيل الذكر وليس الحصر: الجدار؛ وإنشاء مناطق التماس، ونقاط التفتيش؛ وتقييد تقسيم الأراضي والتخطيط؛ وهدم المنازل والإجلاء القسري (لا سيما في حالة جماعات البدو الموجودة في المنطقة جيم)؛ وسحب حقوق الإقامة؛ وتحويل مساحات شاسعة من أراضي الضفة الغربية إلى مناطق عسكرية مغلقة أو محميات طبيعية؛ وانتزاع الأراضي من أصحابها لتحويلها إلى أراض زراعية تابعة للمستوطنين أو إلى مناطق صناعية. وهذا التفتيت من شأنه أن يحول بلا رجعة دون تواصل الضفة الغربية، ويقوض من ثم الحل العادل والمستدام القائم على دولتين
يظل وضع القدس الشرقية إحدى أكثر المسائل إثارة للجدل من بين المسائل التي يتعين تسويتها في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. ويجدر التذكير بأن مجلس الأمن أكد في قراره 478(1980) أن قانون إسرائيل الأساسي الذي يعلن القدس، بما فيها المنطقة المضمومة، عاصمة لإسرائيل يشكل انتهاكاً للقانون الدولي ولا يؤثر في تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة في فلسطين، بما فيها القدس الشرقية.
ويعتبر الفلسطينيون المقيمون في القدس الشرقية أن وضعهم ما كان ليكون بتلك الهشاشة، رغم عدم شرعية ضم القدس، لو أنهم كانوا يعاملون بمساواة ويحصلون على خدمات جيدة في مجالات التعليم والرعاية الصحية والسكن. والواقع أن الفلسطينيين الذين يعيشون في القدس الشرقية يعتبرون “مقيمين دائمين” ويخضعون لعملية تطهير إثني تدريجية وبيروقراطية
وقد تجسّد ذلك في إلغاء تصاريح الإقامة، وهدم الهياكل السكنية المبنية من دون رخص إسرائيلية (التي غالباً ما يكون الحصول عليها شبه مستحيل) ، وإجلاء الأسر الفلسطينية قسراً، وهو ما يشكل انتهاكاً للحق الأساسي في السكن اللائق، المنصوص عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.