لم تأت صفقة القرن بالسلام، ولم تأت ” الاتفاقات الإبراهيمية ” بالسلام، ولم يأت التطبيع بالسلام، وفشلت قرارات ضم الأراضى وبناء المستوطنات فى تحقيق السلام، لم تهنأ إسرائيل بالأمن والاستقرار، وذهبت كل محاولات الالتفاف على القضية الفلسطينية أدراج الرياح، وبقيت القضية حية تتحدث عن نفسها، وبقي شعبها عصيا على الاستسلام والخنوع، وبقيت المقاومة قادرة على أن تسجل صفحات مضيئة فى كتاب المجد الفلسطينى والعربى والإسلامى.
رغم كل المؤامرات التى حيكت فى السر والعلن، والأموال الطائلة التى أنفقت لشراء الذمم وبناء الاستحكامات، ورغم الحصار الخانق، والحشود العسكرية الآتية من أوروبا وأمريكا مدججة بأحدث الأسلحة، ورغم جرائم الإبادة الجماعية والدمار الشامل، مازالت المقاومة قادرة على أن تضرب وتوجع وتاسر وتصمد، وتأتى بمعجزات باهرة تعلو فوق المقاييس المادية لموازين القوة.
مازال الناس فى غزة يرفعون رايات الصمود فى وجه الهمجية الشرسة، ويرددون ” الحمد لله ” وهم يرون بيوتهم تهدم، وأبناءهم ونساءهم يقتلون تحت الأنقاض، وما زالت الأمهات يزغردن عند استشهاد الابن أو الزوج، هذه الروح القوية المحتسبة يقابلها على الجانب الآخر خوف وهلع بين صفوف الإسرائيليين، الذين يلعنون حكامهم، ويلعنون اليوم الذى جاءوا فيه إلى هذه الأرض المقاتلة.
لاتغرنك جعجعة بنيامين نتنياهو وأركان حربه، ولا تغرنك جرائم الإبادة الوحشية، وتدمير المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس والبيوت، فهذا من عمل التكنولوجيا وحرب الصواريخ عن بعد، وهى حرب لا تنبئ عن شجاعة وبطولة، والحقيقة التى لا تخطئها العين أن الخوف صار يسيطر على كل من فى إسرائيل، من المستوطن العادي إلى أعلى المستويات، لم يعد هناك شعور بالأمن، ففى كل ركن سوف يظهر فدائي ملثم، لايهاب الموت قاتلا أو مقتولا، وأمام كل دبابة سيخرج فدائي من تحت الأرض ليفجرها.
هذا الواقع المرعب أفصح عنه وزير الدفاع الإسرائيلى فى مؤتمر صحفى عندما قال: ” بعد 75 عاما مازلنا نعيش على سيوفنا “، وهو تعبير عفوي صحيح، يعكس حقيقة أن إسرائيل تعيش فى خوف أبدي، لا تعرف الطمأنينة والأمن، وبعد أن كانت تملأ الدنيا دعاية بأنها وفرت لسكانها ومهاجريها كل أسباب الأمان والراحة، هاهي تعترف بأنها تعيش فى خوف ورعب، ومعدلات الهجرة العكسية فى تزايد مستمر، وهذا ما يفسر الهمجية المتوحشة التى يضربون بها غزة، فالمجتمع الذى يعيش خوفا دائما هو مجتمع غير طبيعي، وأفراده غير أسوياء، ولابد أن يعانى أمراضا نفسية كالحقد والكراهية والسادية والتلذذ بقتل الآخرين، لأن قتل الآخر يشعره بالأمن، مادام هذا الآخر يشكل خطرا وجوديا عليه.
إن القصف العشوائى للمدنيين بأحدث الصواريخ والمقاتلات، وتدمير المنازل، ومنع الماء والغذاء والدواء عن الجرحى والمرضى، ليس دليل قوة، بل دليل خوف وجبن، وقد رأينا كيف تغيرت الصورة لدى الرأي العام العالمى، وحتى لدى شعوب الدول المتحالفة مع الصهاينة، وكيف خرجت المظاهرات تلعن إسرائيل، وتعلن تأييدها للحق الفلسطينى.
ومع كل يوم يمر تثبت المقاومة الفلسطينية أنها الرقم الصعب فى المواجهة، بعد أن سقطت أوهام السلام، وسيطر التعصب الدينى الصهيونى على حكومة إسرائيل الحالية بعنجهية جاهلة ، فلم يكن ليلجمها ويردها عن غرورها إلا عمل كبير بحجم “طوفان الأقصى”، حتى تستقيم الأمور، وتعود عقول المهوسين بالقوة إلى صوابها، وتتجه جادة نحو السلام، إن كانت راغبة حقا فى السلام، وطريق السلام المعروف هو فلسطين والقدس.
اليوم صارت فلسطين والقدس والمسجد الأقصى هي العناوين التى يجتمع عليها الفلسطينيون والعرب والمسلمون، وكل أحرار العالم، ولم يعد فى الإمكان تجاهلها، منها يأتى السلام، وبسببها يمكن أن تستمر الحرب إلى ماشاء الله، بل يمكن أن تتطور وتتسع، وتتحول إلى حرب إقليمية، أو عالمية.
لم يكن طوفان الأقصى مجرد دفاع عن النفس لفك حصار غزة الذى استمر قرابة 16 عاما، ولم يكن مجرد دفاع عن الحق فى الأرض والحرية، أو مجرد مغامرة للحصول على رهائن لتبادل الأسرى فحسب، لكنه كان دفاعا عن المسجد الأقصى، الذى تجرأت إسرائيل على تدنيسه واقتحامه بالمستوطنين المسلحين، ودفاعا عن القدس التى تجرأت إسرائيل على تهويدها، وهدم بيوت أهلها وطردهم منها، والاستهانة بقرارات الشرعية الدولية، وتجاهل المناشدات العربية والعالمية، والإصرار على أنها موحدة، وأنها عاصمتها الأبدية.
لقد ذهب غرور القوة بإسرائيل كل مذهب، فلم تترك مجالا لأي حديث عن السلام والمفاوضات، وهي التى كانت تخدع العالم فى سنواتها الأولى بأنها دولة سلام، عندما كان الخطاب العربى العام يجاهر بالحرب لتحرير فلسطين المحتلة، كانت إسرائيل تروج أنها تدعو للسلام وتطلب السلام، ولما تحول الخطاب العربى إلى طلب السلام، وقدم مبادرات للسلام، انقلبت إسرائيل إلى وحش كاسر متبجح، يستهزئ بالمبادرات ويسخر من السلام، ويرفض القرارات الدولية وحل الدولتين، ويستقوى بالمدد الآتى من الغرب، فصارت تتكلم لغة الحرب، وتهدد وتتوعد، وترفع خرائط أطماعها التى تتجاوز حدود فلسطين، لذلك كان طوفان الأقصى هو الرد المزلزل (الضرورى) فى هذا الوقت، كي ينكسر غرور الطغاة المستكبرين.
وحين يكتمل انتصار المقاومة، وهو مكتمل بإذن الله، لن يكون أمام الغطرسة الإسرائيلية إلا التسليم بالواقع الجديد، والعودة إلى الحل الوسط، المتمثل فى قرارات الشرعية الدولية، وقيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية، والتخلى عن الجولان ومزارع شبعا، وكل شبر من الأرض العربية المحتلة، والتخلى عن أطماع التفوق والتوسع، حتى تعيش إسرائيل دولة بين الدول، وليست فوق الدول.
لقد فشلت المفاوضات والمبادرات والطرق الدبلوماسية، وبقيت المقاومة الفلسطينية هى مفتاح السلام الحقيقى ووسيلته، بدأت بالحجر والمقلاع، واليوم وصلت إلى الصواريخ والمسيرات، صحيح أن الثمن باهظ جدا، لكن عندما يكون الهدف تحرير الأوطان تهون الأرواح، ويرخص الثمن مهما يكن.