الكلمات الصادقة تظل دائما دافئة تثلج الفؤاد وتقرب المعاد فما بالنا بالحديث عن سحابتي الممطرة التي أعطت ووفت طوال هذه السنوات وكانت ومازالت رفيقتي حتى أثناء المرض في غرفة العناية المركزة منذ عامين توقف عندهم الزمان والقلم يكتبان ويسجلان.
**قامت برحلتها الأخيرة من وحدة الرعاية المركزة بمستشفى التأمين الصحى بمدينة نصر. ..فى ذلك الشتاء أرهقها المرض والألم والانتظار.. وقبلها الرغبة المخلصة فى مقاومة الألم المبرح لمرض الفردوس فى مراحله الأخيرة… كانت تضغط على ما بقى لديها من مقاومة.. تنتظر عودتى من العمل من اصدار الطبعة الثالثة للجريدة.. حريصة على أداء واجبها والاطمئنان على عودتى سالمًا..مطمئنة إلى ما لدى من طاقة أمل وعزيمة للاطمئنان على مستقبل
عائلتنا الصغيرة.. تستند إلى الحائط متوجهة إلى المطبخ لإعداد طعام الافطار.. ثم الزحف إلى غرفتها مكابدة الألام المبرحة.. التى بدأت لأجلها تناول الأنواع القاسية… مطمئنة أنه لن يصل إلى جسد متعب وعقل مستهلك لا يفكر إلا فى غد جديد. لابراز ذاته فى مهنة أحبها وعشقها.. وتفهمتها إلى أبعد الحدود وساندته لأبعد ما يستطيع.
**وصل السرطان وتغلغل لمرحلة خطيرة ترفع رايات اليأس.. وتوشك أن تدق فيها طبول الرحيل ورأى الطبيب المعالج أنه لا مناص من مغادرة المنزل إلى غرفة الرعاية المركزة بمستشفى مدينة نصر التى استقبلتها فى أحد مراحل العلاج بالتناوب مع مستشفى وادى النيل.. قال الطبيب أنها تريد ابلاغنا برسالة الرحيل.. وقت ضيق ولكنه مطلوب كى تستقر فى الذهن بانه الوداع أمر لابد منه وأن الرسالة متوجهة للجميع. وهو كان يعمل الأمل فى أن العودة ممكنة والعلاج سيصنع مع الإرادة المعجزة المرتقبة.. لكن لم يفطن لاشارة المغادرة على كرسى متحرك. وتوقفها فى الدور الرابع.. حيث يعانى صديق جار من مرض الرحيل. فتح لها الباب مدركًا فى لحظة حب ووفاء نادرة مازال يعتقد بداخله أنها السطر الأخير.
** فى الرعابة المركزة.. سمحوا للابنة الوحيدة بمرافقتها عند الدخول .. وكانت أيضا أول من نقلت إليه بعد أيام قلائل من يوم الزيارة (الاربعاء) رحيلها مغطاة لرخات مطر بيضاء. ملأت سماء منطقة المقابر الأثرية حيث مدافن الأسرة وذلك الحشد غير المسبوق من الأصدقاء والزملاء. الذين تجمعوا من كل مكان حول مقابر فتحت فى لحظة أذان مغرب فى يوم رمضانى كريم.. كسر الصائمون صيامهم بحبات تمر وقطرات مطر.. فهى ذو طعم فريد..
فى البداية وضعوا الأجهزة وأرسلوا الأسلاك.. واطمأنوا على حركة التنفس المصاحبة للحياة.. لكنها فى اليوم الثالث أحست بما يشعر به الراحل. ..المغادرة إلى عالم البقاء.. رفضت أن تظل أيامًا مرتبطة بأسلاك ونبضات أجهزة. قال عنها الطبيب بعد تأكد الرحيل أن علامة خاصة لا يشعر بها إلا الانقياء. اصطحب الابئة.. وسمح لها بالقبلة الأخيرة.. ومنها المصحف الشريف الذى لازمها فى رحلات العلاج إلى باريس.. ووسط الصفحات جاءت المفاجأة رسائل بخطها.. حكم وحكايات.. نصائح وإرشادات.. وشئون منزلية…وعلاقات تحيط الأب المكلوم بالأبناء الأربعة.. أحمد،أيمن، أماني، وأسامة.. تساعدهم على اقتحام المستقبل المأمول.
**ومن الصدف الملفتة للنظر أن سحابتى الممطرة فى الرعاية المركزة العلاج والوداع مع معاناة ربان الأسرة.. الذى يواصل رسالته فى مواجهة الآلام والنهوض من نوبات معاناة.. مضافة إلى الوهن والضعف والالتزام بتعاليم ودساتير الأطباء.. بدأت بتكرار الاحتباس فى البول… وتركيب قسطرة تظل محمولة لأكثر من شهر ونصف.. حتى اتخاذ قرار بإجراء عملية لاستئصال البروستاتا أو استجابتها للعلاج ومن الانفراج المؤقت للمعاناة والتردد أكثر من مرة على المستشفى لاصلاح عطب القسطرة. بتحول الأمر إلى انفلونرًا حادة.. تسفر عن آلام لا تطاق ينبغى معها الذهاب إلى طبيب بالصدر وأشعات عاجلة تؤكد التهاب رئوى قادم.. لابد له من دخول العناية المركزة وقضاء أيام تحت نفس الأجهزة. ..التى عانت منها سحابتى الممطرة.. وكانت محطة الرحيل..
**الحمد لله كانت تجربة الرعاية المركزة لها سلبياتها وابجابياتها.. وانتهت بالعودة إلى المنزل لاستكمال العلاج من الالتهاب الرثوي. ووسط التجربة ألمح الكثير من التشابه والارتباط لموقف طبى جمعنا مع سحابتى الممطرة.. وجاءت الذكرى بالوجود فى نفس المكان.. رسالة تضيف فيها سحابتى الكثير من المعانى والذكريات وتطلب منا المزيد من التأمل… والإكثار من الدعوات.
صالح إبراهيم